إذا كانت هناك من قيمة رسخت تماسك المغرب على امتداد التاريخ، فإنها بلاشك قيمة الوطن . قيمة الوطن هي التي سمحت بتسجيل انتصار تاريخي في معركة الملوك الثلاثة . قيمة الوطن كانت وراء الحصول على الاستقلال من خلال التماهي بين العرش والشعب . قيمة الوطن هي ما عبر عنه المغاربة، بحماس شعبي منقطع النظير حول المسيرة الخضراء .
المصالح العليا للوطن هي التي ألهمت قادتنا التاريخيين الكبار، حتى في أحلك المواقف التي طبعت التوترات السياسية عندما كانوا في المعارضة . علال الفاسي توفي في رومانيا عندما كان في مهمة خاصة ترتبط بالوحدة الترابية للبلاد في وقت كان فيه حزب الاستقلال في المعارضة . عبد الرحيم بوعبيد، بالتزامن مع وجود قياديين في حزبه رهن السجون، قام بالمهمة ذاتها . وحتى وهو في السجن، أصر بعيد إطلاق سراحه على استمرار حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية داخل المؤسسات باسم المصالح العليا للبلاد . علي يعتة، المناضل الشيوعي، تصرف بنفس الطريقة دائما، ويحكى أنه اشترى أسلحة من تشيكوسلوفاكيا لفائدة الجيش المغربي في حربه بالصحراء، بينما العالم كله كان يرزح تحت الحرب الباردة .
كل ما بناه المغرب بعد الاستقلال جاء نتيجة الارتباط الوثيق بهذه الفكرة الجميلة، وهذا الفخر بالانتماء الذي يميز الشعوب الضاربة في عمق التاريخ كما قال ليوطي . وإذا كنا قد تجاوزنا مواقفا صعبة، وبنينا الدولة الحديثة، واقتصادا ينمو ويتطور دون بترول، وديمقراطية نامية وواقعية، فلأننا وفي كل مرحلة، غلبنا منطق القلب وحب الوطن .
ما نعيشه منذ انتخابات 7 أكتوبر لا يليق بهذا التاريخ، وبحمولته العاطفية، وبأغلى وأنفس ما تركه لنا الآباء . مصلحة الوطن ليس في الحسابات الضيقة، التي تركت البلاد دون حكومة لأربعة أشهر، تاركة الكثير من القضايا الاستعجالية تنتظر على أجندتها . وإذا كانت كل الأحزاب مسؤولة عن هذا التعطيل، فإن درجات هذه المسؤولية تختلف . فأقل ما يمكن أن يوصف به سلوك حزب العدالة والتنمية، بشتمه للجميع وفي مقدمة هذا الجميع “الأحداث المغربية” وتسليط جيشه الالكتروني ضد كل انتقاد ولو كان صادرا عن ملاحظ بسيط، أنه منافي للديمقراطية .
بحصوله على المركز الأول في الانتخابات، يحتاج هذا الحزب لتحالفات في تكوين الأغلبية . مصلحة الوطن تقتضي أن يبادر إلى تسهيل هذه المهمة، لا أن يسعى لفرض سيطرته بالتهجم علنا على قادة الأحزاب الأخرى . الرهانات التاريخية للأمة تقتضي التنمية والحداثة والديمقراطية. وهذا الثالوث يشكل عمق التوافق الوطني . إنه ميثاق لا يمكن التراجع عنه بسبب المناورات الحزبية .
الملك يجسد الوطن، يتحمل مسؤوليته الكاملة حول هذه المحاور الثلاثة . ومصلحة الوطن تقتضي أن تلتئم الهيئات الحزبية بانسجام حول هذه الرؤية .
خدمة مصالح الوطن ليست استرقاقا بل شرفا كبيرا . وأولئك الذين ينالون هذا الشرف لأن الشعب وضع ثقته فيهم، يتوجب عليهم الاضطلاع بحس أكبر من المسؤولية . خدمة الوطن يعني وضعه فوق أية مصلحة أخرى .
لقد حان الوقت الذي يجب فيه وضع الوطن ومصالحه في صلب النقاش، وطوبى لزعمائنا القدماء الذين سلكوا هذا الطريق دائما .