الدكتور جوار مبروكي*
أستغرب دائما عندما أمرُّ على المقاهي في أي مدينة أو قرية، وفي أي وقت من النهار أو الليل، أنها مملوءة بالذكور فقط، فتجد شخصاً بمفرده أمام "قهوة" أو "بْرّادْ أتايْ"، أو اثنين أو أكثر جالسين إلى طاولة يتحدثون. كما أن هناك نوعاً من الرجال يلتحقون يومياً بعش الذكور بعد انتهاء عملهم اليومي، ويقضون ساعات مع أصدقائهم، حتى يقترب وقت العشاء ليدخلوا إلى البيت. وأتساءل لماذا هؤلاء الذكور لا يدخلون إلى بيوتهم ويهتمون بأطفالهم وزوجاتهم؟ لماذا تزوجوا وأنجبوا أطفالاً ليعششوا بالمقاهي؟ وهنا لا أتحدث عن الأشخاص الذين يأخذون قهوة بمناسبة ما، بل أتحدث عن المدمن على المقاهي على الأقل مرتين في اليوم، ويقضي فيها ساعات من وقته اليومي، في حين يحرم أبناءه وزوجته من وجوده بالبيت، وكأنه تزوج بالمقاهي.
وأتذكر يوماً أن شخصا طرح علي هذا السؤال: "فينْ كَتْعْمّْرْ؟"، ولما لاحظ عدم فهمي لسؤاله؛ لأن بالنسبة لي "التّْعْمارْ" يكون في البيت فقط، غيره بِـ"آشمن قهوة كتجلس فيها؟".
كما أتساءل عما يجمع الذكور ويجلبهم إلى هذه الأعشاش وعما يتحدثون وفي ما يتشاورون وعما يبحثون؟ وفي بعض الأحيان أحاول أن أتصور ما يجري في بيوتهم بينما هم داخل هذه الأعشاش؟ كيف تسرع الزوجة المسكينة وتتنقل من المطبخ، حيث تُعد وجبة العشاء، إلى بيت الجلوس لتراقب الأطفال، وإلى محل "الصابون" لنشر الملابس، أو لـ"ضرب المْصْلوحْ"، وقد تعطل كل الأشغال لتتدخل في صراع بين الأطفال، وتحثهم على إنجاز فروضهم وتسرع وتسرع وتسرع.... لأن زوجها سوف يترك عشه ليدخل إلى البيت ويجب أن يجد العشاء جاهزاً والأطفال هادئين.
هذا الإدمان الذكوري في الواقع على أعشاش المقاهي ظاهرة اجتماعية خطيرة، ولها أسباب عديدة:
1- التربية المغربية: "الراجْلْ دْيالْ الزّْنْقة والبْنْتْ دْيالْ الدَّارْ"
التربية في مجتمعنا فيها تمييز عنصري فظيع، إذ يحلل للذكر ما يحرم على الأنثى. فالفتى معصومٌ من المشاركة في أشغال المنزل، وهو معزز مكرم وأخته تخدمه كالجارية، ولو كان أصغر منها؛ كما يُسمح له الخروج إلى "الدَّرْبْ" منذ صغره للعب كرة القدم مثلا، ثم في مراهقته إلى الشوارع للتحرش بالفتيات، وبإمكانه أن يدخل المنزل في ساعات متأخرة من الليل. لهذا يستمر الذكر على نهج ما تلقاه من تربية، ويعتبر حتى بعد زواجه أنه مازال ذلك الفتى وزوجته أخذت مكان أخته وأمه.
2- عدم الحس بدور الأب في التربية: "الراجل هُوَ لِكَيْحْكْمْ وْيْصْوّْرْ طْرْفْ دْلخُبْزْ لوْلادو"
في مجتمعنا يتلخص دور الأب في العمل والحصول على قوت واحتياجات أبنائه والسلطة على المنزل ومعاقبة من لم يحترم أوامره وقوانينه الداخلية، مثل "الديكتاتوري"، معتبراً هذا الدور من شؤون التربية!.
وفي الواقع فإن الأم تربي لوحدها الأطفال، وفي حالة المخالفات يتدخل الأب ليعاقب بالضرب في غالب الأحيان بعد دخوله من عشه اليومي؛ وهكذا يعيد إنتاج ما رآه في صغره وما كان يعتبره أمراً عادياً. ومع سن مراهقة أبنائه وزعزعة سلطته يُلقي الزوج كل أخطاء التربية على عاتق الأم.. "هَانْتِي شوفي التّْرابي دْيالكْ كِدايْرا"، جاهلاً أن التربية من واجبهما الاثنين. وبما أنه يرى في أعشاش المقاهي عددا كبيرا من أمثاله من الآباء، فلا يشعر بأي خطأ، بل بالعكس يزيد اقتناعه بأن مكانه بعد نهاية عمله هو هذه "الأعشاش"!
3- الجهل باحتياجات الزوجة: "المرأة عْنْدْها كُلشيّ فْالدّارْ وْمَخَصّْها والو شْكونْ لِبْحالها"
ذات يوم قال لي شيخ مسن: "المرأة لِبْغاتْ هِلخُبْزْ تْبْقى عْنْدْ بّاها هانية"، ووجدت أنه واع بأن الزوجة في حاجة إلى زوجها في غير توفير القوت.
في مجتمعنا نرى أن الزوج والزوجة لا يلتقيان إلا عند ساعة النوم، ولا حديث حميميا بينهما في النهار، لأن الزوج يكون في عمله وفي المقاهي، ويجهل أن زوجته في حاجة إليه لمساعدتها في البيت وفي التربية وقضاء الوقت معها؛ ولهذا يأتي مشتكيا منها جاهلا أنها مرهقة وغاضبة من هروبه من مسؤوليته الزوجية والتربوية، ويقول: "مالْكِ مْقْمْقْمَة وْحالْتْكْ حالة وْمَاعَجْبْكْ حالْ، مَتْهْضْري مَضّْحْكي آش خاصّْكْ؟"، وتجيبه متهكمة: "ماخَصْني والو".
4- غياب الصداقة بين الزوجين: "مايْدّيهَا فِيّا مَايْجي يْهْضْرْ مْعَيا هِي يْدْخُلْ مْنْ القهوة يْتْعْشّى وْيْمْشِي يْنْعْسْ"
في مجتمعنا لا يرى الطفل صداقة ولا تناغماً وانسجاماً بين الأم والأب، وفي أحسن الأحوال يرى كل واحد منهما يلعب دوره حسب النظرة الذكورية، وفي كبره يعيد الإنتاج. ويقتنع الفتى بأن الصداقة سيجدها مع أصدقائه في "الدّْرْبْ"، وعند كبره في "رَوْضِ الأزواج" أو "أعشاش المقاهي"، جاهلا أن الذي يجمعه مع أصدقائه هو الإدمان على هذه "الأعشاش"، وليبرر هروبه من مسؤوليته ولا شيء آخر، وأن الذي يجب أن يجمعه مع زوجته ليكونا صديقين هي تربية الأطفال والاعتناء بهم واللعب معهم، وهكذا ينسجان علاقة الصداقة، ويصبح البيت هو العش الحقيقي ومكاناً للمتعة والراحة.
*طبيب ومحلل نفساني