إذا كان من المفروض في اللحظة السياسية الراهنة أن تكون لحظةً لترجمة إرادة الناخبين بغية تشكيل حكومة في مستوى تطلعات و انتظارات المغاربة، فإن حزب العدالة و التنمية أبى من جديد إلا أن يجعل من هذه اللحظة مناسبة جديدة لفرض أنانيته السياسية المحكومة برغبة في الهيمنة على مختلف مكونات المشهد السياسي الوطني.
لقد أثارت طريقة تدبير الحزب لمفاوضات تشكيل الحكومة الكثير من الاستغراب، فعادة تسعى الأحزاب السياسية التي تحتل المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية في كل دول العالم إلى عقد تحالفات قوية تمكنها من أغلبية عددية تعفيها من ضغط المعارضة خلال ولايتها الحكومية، فإذا بالحزب المذكور هو من يرفض عروض الأحزاب السياسية بالمشاركة إلى جانبه في الحكومة المقبلة، حيث يحرص على ممارسة نوع من "الشوفينية" المفرطة عبر اختيار أحزاب و رفض أخرى.
و الغريب أن الحزب المرفوض هو من ساهم، إلى جانب المؤسسة الملكية وباقي القوى الوطنية، بنضالات رجالاته و قياداته التاريخية في توفير الظروف المواتية و إنجاح التجربة الديمقراطية التي استطاع من خلالها حزب العدالة و التنمية احتلال الرتبة الأولى في محطتين انتخابيتين تشريعيتين متتاليتين.
نزعة الهيمنة هاته، تأكدت جليا حين أصبح الحزب يميل بشكل أكبر إلى فرض رأيه وتصريف توجهاته بغض النظر عن البيئة السياسية المحيطة به أو التطورات و الأحداث التي ينبغي على كل حزب سياسي أخذها بعين الاعتبار قبل الإعلان عن توجهه أو قراره.
أولى تجليات هذه النزعة انطلقت مع التشبث الغريب بحميد شباط كشريك حكومي لا بديل عنه بالرغم من أن هذا الأخير هو من وضع الحصى في حذاء حزب العدالة و التنمية سنة 2013 حين انسحب من الحكومة بدون مبررات مقنعة، ليأتي بعد ذلك بن كيران ليضع مشاركة حزب الاستقلال "كشرط إذعان" أمام الجميع، بالرغم من مقترحات بديلة كانت كفيلة بالإعلان عن الحكومة بشكل رسمي، غير أن الرياح أتت بما لا تشتهيه سفينة ابن كيران و شباط لأن للوطن رب يحميه.
و في سلوك سياسي موجه للرأي العام أكثر منه لمسار تشكيل الحكومة، قام حزب العدالة والتنمية بالإعلان عن مكونات الأغلبية الحكومية بدون انتظار رد شريكيه حزبي التجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية، فيما يشبه فرض الأمر الواقع و كسب تعاطف الشارع مع حزب العدالة و التنمية كحزب يتعرض "للمؤامرة". و قد لوحظ في هذا السياق، أن وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي التابعة له ركزت بالأساس على رد فعل التجمعيين و الحركيين عندما أصدروا بلاغا رفقة الاتحاد الاشتراكي والاتحاد الدستوري، و لم تركز على الفعل الذي هو إعلان ابن كيران للأغلبية دون موافقة حلفائه.
كل هذه التصرفات تؤكد أن الحزب له فهم خاطئ لمعنى أن تحصل على الرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية في دولة رئيسها هو جلالة الملك وفق نظام سياسي دستوري يحدد صلاحيات كل جهة تحديدا دقيقا لا لبس في مضامينه. فالنتائج الانتخابية التي يحاول حزب العدالة والتنمية أن يجعلها أساس مقاربته في الرفع من سقف مطالبه السياسية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخول للحزب شرعية تدبير أمور الحكم، بل فقط تخول له صلاحية تشكيل الحكومة وفق إرادة الناخبين الذين اختاروا 12 حزبا سياسيا لتجسيد تطلعاتهم في تدبير شؤونهم العامة، و لم يختاروا حزبا واحدا.
بل الأكثر من ذلك، فحزب العدالة و التنمية لم يحصل سوى على جزء من أصوات الكتلة الناخبة مما يعني أنه غير مخول بأن يُنَصِبَ نفسه متحدث دائم بإسم الشعب، الذي فضل جزء منه التصويت لأحزاب أخرى، و فضل الجزء الأخر عدم التصويت أساسا لأنه غير مقتنع بالمنجزات التي ما فتئ الحزب يروج له في كل وقت و حين، علما أن غالبية المواطنين تظل خارج العملية الانتخابية ككل ولا تمارس حقها و واجبها في التسجيل في اللوائح الانتخابية بحكم عزوفها و عدم ثقتها في الخطاب السياسي الذي نزل به الحزب المذكور إلى الدرك الأسفل من الممارسة السياسية. فأي شعبيتحدث بإسمه حزب العدالة و التنمية؟
إن هاته الممارسة يسعى من خلالها الحزب إلى تغطية فشله في القيام بواجبه تجاه وطنه أولا وتجاه من انتخبه ثانيا. فالسلطات المختصة قامت بواجبها في ضمان إجراء انتخابات شفافة و نزيهة تعكس المسار الديمقراطي الذي تعرفه بلادنا، و المؤسسة الملكية حرصت على تجسيد هذا المسار من خلال تعيين رئيس الحكومة المكلف مباشرة بعد الإعلان عن النتائج الانتخابية. بدورها الأحزاب السياسية كانت صريحة في توجهاتها السياسية، فمنهم من اختار المعارضة رفعا لأي لبس، و منهم من أبدى استعداده للمشاركة في الحكومة شريطة ضمان أغلبية عددية مريحة، فماذا ينتظر الحزب الحاصل على المرتبة الأولى، أهناك مقومات سياسية لإنجاح تشكيل الحكومة أكثر من هاته؟
لا غرابة من ذلك، فالرغبة في احتكار تمثيلية المواطنين جعلت الحزب يضرب في العمق الأساس الذي تقوم عليه الممارسة السياسية في بلادنا القائمة على التعددية الحزبية، حيث يحاولجاهدا هدم كل التراكمات الإيجابية الحاصلة منذ الاستقلال إلى اليوم والتي تقوم على تدبير جميع المحطات السياسية وفق ديقراطية تشاركية تستوعب جميع الأحزاب السياسية بتأطير من المؤسسة الملكية التي لعبت دورا كبيرا في إرساء هذه التعددية بالرغم من محاولة بعض الجهات السياسية آنذاك إرساء "نظام الحزب الواحد".
فكيفإذن لهذا "النظام"، الذي لم ينجح فور حصول المغرب على استقلاله، أن يجد له طريقا في ظل المكتسبات التي تم تحقيقها على درب الممارسة الديمقراطية في تجربتنا الرائدة، و التي كان حزب العدالة و التنمية أكبر مستفيد من ثمارها.
طبعا لا بد من تفسير لهذا السلوك الخارج عن المألوف في الساحة السياسية المغربية. لذا وجب القول أن محدودية التصورات الاقتصادية والتدبيرية لحزب العدالة و التنمية، تدفعه إلى بناء أدائه السياسي على المواجهة السياسية في كل الاتجاهات لتعويض مركب النقص الملازم له. هاته المواجهة يختلف طرفها من مرحلة إلى أخرى، فقد يكون حزب الأصالة و المعاصرة أو حزب الاستقلال في فترات سابقة أو قد يكون طرفا مجهولا كــ "التحكم" و "التماسيح" والعفاريت".
الآن و بعد انتفاء سياق المواجهات السياسية بانتهاء المرحلة الانتخابية كثف الحزب مجهوداته "لشيطنة" حزب التجمع الوطني للأحرار و رئيسه الجديد عزيز أخنوش عبر تصوير الحزب و كأنه ملحقة لحزب الأصالة و المعاصرة، و كذا تنظيم حملة إعلامية واسعة للتشكيك في الذمة المالية لرئيسه.
و في هذا الصدد، و بالرغم من أن ابن كيران كان يُوجِهُ أعضاء حزبه ظاهريا و يشدد على الابتعاد عن انتقاد رؤساء باقي الأحزاب المنخرطة في المفاوضات الحكومية لأن ذلك يحرجه، إلا أنه قد تبين بعد ذلك أن الأمر يتعلق بعملية توزيع الأدوار فيما بينهم ما دام الأمين العام للحزب نفسه قد حرص على تضمين بلاغه "انتهى الكلام" عبارات تطعن في استقلالية القرار الحزبي لكل من عزيز أخنوش و امحند العنصر (استعمال عبارة: "أستخلص أنه في وضع لا يملك معه أن يجيبني.../ و عبارة: "نفس الشيء يقال عن السيد امحند العنصر الأمين العام لحزب الحركة الشعبية").
ولفهم أعمق لطبيعة "شخصية" حزب العدالة والتنمية لابد من استحضار أن الحزب هو نتاج لتجمع حركات دينية كانت تنشط خارج السياق القانوني بخلفية دعوية متطرفة أحيانا قبل أن تختار الانخراط في العمل السياسي بعد إعلانها عن عدد من "المراجعات" في قضايا مختلفة.
و مادام الأمر يتعلق بحركة دينية في عمقها فإن أداءها لابد و أن يكون مؤطرا بإيديولوجية دينية شكلت الأساس الذي تم الاعتماد عليه لبناء "شخصيات القادة والمؤسسين" والتي تشكل في نهاية المطاف "شخصية الحزب"، على اعتبار أن حزب العدالة و التنمية لم يشهد بعد تحولا ديمغرافيا في طبيعة نخبته المُقرِرَة، حيث أن من يسيره الآن هم أنفسهم من كانوا يشتغلون في الخفاء داخل الحركات الإسلامية خلال سنوات السبعينات، و هم من قاموا بالمراجعات الفكرية في الثمانينات، و هم من قادوا عملية الاندماج داخل الحقل السياسي الرسمي في التسعينات، و كذلك هم من يمثل الحزب في المسؤوليات العمومية في السنوات الخمس الأخيرة، وأخيرا هم من يدبر مشاورات تشكيل الحكومة الحالية بنزعة إقصائية تجاه باقي الأحزاب السياسية.
ولعل هذا المسار جعل الحزب مكبلا بفكر منغلق لا يسمح له بممارسة سياسية عقلانية تخضع لمتطلبات كل مرحلة على حدة، وإنما يظل خاضعا لمنطق "الجماعة الدينية" وفق بنية مغلقة يتحكم فيها القادمين من صلب الحركات الإسلامية. وما طريقة تدبير المشاورات الحكومية إلا خير دليل على ذلك، حيث يخال للمرء أن المكلف بتشكيل الحكومة هو الحزب وليس أمينه العام.
إن حزب العدالة والتنمية يستغل بكل وضوح الآليات الديمقراطية، التي تم إرساؤها بفضل نضالات الأحزاب الوطنية، لإقصاء الأخرين من حق المساهمة في تدبير الشأن العام، حيث يمثل هذا التوجه نكوصا و تراجعا عن القيم الديمقراطية التي تستوعب الجميع بدون محددات إيديولوجية أو فكرية.
غريب إذن أمر هذا الحزب ومثير للشك إصراره على التوجه رأسا نحو الهيمنة على المشهد السياسي عوض الارتقاء بتجربته السياسية و جعلها مرجعا تستنير به الأجيال المقبلة على غرار ما ساهمت به الهيئات الوطنية المناضلة و القامات السياسية الكبرى الذي اختارت خدمة الوطن من زاوية مصلحته العليا واستمرارها على مر الأزمنة لا رهن هذه المصلحة المقدسة خدمة لأجندات معينة.
إن السياسة بمفهومها النبيل الذي تبلور منذ إعمال العقل في فهم وضبط الظواهر السياسية والاجتماعية، تكاد تندثر في الممارسات والسلوكيات التي تؤطر المشروع والمنهج العام لحزب العدالة والتنمية، وتشكل الأساس الذي يوجه تفاعلهم وتواصلهم سواء مع المحيط السياسي الداخلي للحزب القائم على أساس الطاعة والولاء التام للحزب بدل الوطن، أو مع المحيط الخارجي وفق معادلة عدو أو صديق، خير أو شر.
كل ذلك يدفع إلى القول أن النخب السياسية والثقافية أصبحت تتحمل مسؤولية تاريخية في دق ناقوس الخطر، بالمساهمة في تنوير المجتمع حول هذه السلوكات الذي تسعى إلى الهيمنة السياسية، خاصة وأن أصحابها يسعون إلى تسويق صورة إيجابية لدى الرأي العام بأن مشروعهم يقوم على أهداف نبيلة "كمحاربة الفساد"، في حين أن الأمر يتعلق بالتوسل بالآليات الديمقراطية من خلال صناديق الاقتراع لممارسة الاستبداد و جعل مصلحة الوطن رهينة عقليات سياسية متحجرة.
من أجل ذلك، فإن قادة الحزب لم يكتفوا بفكر بن تيمية فحسب لتغذية نزعتهم الإقصائية، بل سعوا إلى مجاراة ما جادت به قريحة "أدولف هتلر" في حربه مع أعدائه، حين ترك من بين وصاياه السياسية أنه "إذا أردت السيطرة على الناس أخبرهم أنهم معرضون للخطر، ثم حذرهم أن أمنهم تحت التهديد، ثم خَوِّن معارضيك". إنها القواعد الثلاثة التي تؤثث أداء حزب العدالة و التنمية وتبرز أهدافه الدفينة في السيطرة على المجتمع و الدولة و الخصوم، مادام لا مشروع حكومي لديه يقدمه للمواطنين، "انتهى الكلام".