لا زال الإسبان يتذكرون أنه قبل سنتين، حينما بدأت الأزمة الإقتصادية تشد بخناق جارنا الشمالي.. كيف خرج بدرو صولبيس، الخبير الدولي والوزير القوي في الاقتصاد في حكومة الاشتراكيين، أمام الصحافة ليعلن أنه قرر الاستقالة من منصبه.. السبب هو كما قال “أنا متعب ولم أعد أنام جيدا، ولم يعد لي ما أقدمه لإسبانيا”.. صولبيس قال ما في قلبه بصراحة، وذهب لمنزله المتواضع ليرتاح من ثقل المسؤولية التي لم يستطع تحمل المزيد من أعبائها.
في المغرب لازالت ثقافة الاستقالة لم تجد ثقبا تنفذ فيه إلى هذا المشهد السياسي المعطوب، حيث لازالت تعترضها نوازع حب السلطة والكراسي والقرب من علية القوم، وفي أحايين كثيرة تحيل الاستقالة عند المسؤول السياسي الذي يفكر فيها إلى التعرض لتأويلات الفشل وضعف الكفاءة ونقص الشجاعة في تدبير قطاع معين، وأيضا إلى تبعات ذلك على الحزب الذي ينتمي إليه أو على مستقبله الشخصي
أتحدث هنا عن الوزراء الذين يتسلمون الحقائب بنية الإصلاح وتطوير قطاعاتها وتنقية دواليبها من العناكب القديمة التي التصقت بجدرانها، والذين في النهاية لا يستطيعون.. ولا أتحدث عن السياسيين الذين يعتبرون التربع على “عرش” الوزارة هدفا وحلما قد تحقق بعد مسار طويل من “التخلويض” ونسج العلاقات المصلحية التي تشفع لهم في تسلم ظهائر تعيينهم.. هؤلاء لا تعنيهم الاستقالة ولا مصلحة الوطن بقدر ما يعنيهم “التفطح” بالمال العام وصياغة المنجزات الكلامية واستغلال الكاميرات المشتعلة في انتظار “إعادة الانتشار” في وزارة أخرى.. وهكذا دواليك إلى أن يقضي الله وإرادة التغيير أمرا كان مفعولا..
يتذكر المغاربة بحسرة واقعة وزير الاتصال في حكومة التناوب الأولى محمد العربي المساري الذي كان قد جاء إلى الوزارة من النقابة الوطنية للصحافة، وكيف أنه كاد أن يدخل التاريخ المغربي بعد أن حرر استقالته وسلمها للوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي احتجاجا على توقيع الأخير لقرار مصادرة أسبوعيتي “الصحيفة” و”لوجورنال” اللتان كانتا قد انفردتا بنشر رسالة قديمة للمرحوم الفقيه البصري تشير إلى علم قادة الأحزاب الوطنية بمحاولة انقلاب الطائرة التي خطط لها الجنرال أوفقير ضد الحسن الثاني سنة 1972.
الوزير المساري تراجع عن استقالته بعد ضغوطات كبيرة من قادة حزبه الاستقلال بدعوى حساسية المرحلة، وبالتالي فوت على نفسه شرف التأسيس لثقافة جديدة تقطع مع تلك الاستكانة المهينة التي تلجم ألسنة الوزراء رغم علمهم بوجود الأيادي الطويلة التي تلعب في قطاعهم كما تريد.
المغاربة أيضا يتذكرون العديد من وزرائهم كانوا قد “خيموا ” في مناصبهم لعشر سنوات أو أكثر، لكن مباشرة بعد الاستغناء عنهم و إلقائهم إلى “التوش” شرعوا في شحذ ألسنتهم السليطة منتقدين هذا وذاك من الذين يحركون اللعبة من وراء الستار.. الأمر الذي كان عليهم أن يفعلوه وهم في كراسيهم حتى يتبين للناس الخيط الأبيض من الأسود.
لكن المضحك هو البعض من أصحاب المعالي الذين يحملون “الصاكادو” الوزاري لولاية أو ولايتين ولا يستطيعون فيها تحريك دجاجة من فوق بيضها ومع ذلك يستمرون.. حتى إذا أحسوا بقرب نهاية عمرهم في الكرسي خرجوا إلى الشعب فيما يشبه خطبة الوداع.
لنتذكر على سبيل المثال الوزير محمد الأشعري الذي قضى عقدا كاملا يدبر أمور الثقافة في هذا البلد السعيد، وحينما وصل إلى عامه العاشر صرح أن المغرب يحتاج إلى مخطط استراتيجي يعيد للثقافة مكانتها الريادية!!! إيوا فاين كنتي شحال هاذي أسي محمد…
حكومة عباس الحالية تشهد وجود حالة من عدة حالات لم يسبقنا إليها أحد من العالمين.. إنها حالة وزير التعليم اخشيشن الذي ينتمي إلى الأغلبية الحكومية بصفته عضوا في حزب معارض (اللي فهم شي حاجة يفهمنا).. اخشيشن الذي عوض أن يستقيل من الحكومة عندما خرج حزبه البام إلى المعارضة، فضل أن يبقى “بت نبت” في منصبه متمتعا براتبه وامتيازاته دون أن يأتي بجديد لمعضلة التعليم سوى تصريحه قبل شهور أن التعليم المغربي في حاجة إلى تعاقد جديد!!!.. حتى لدابا .
مستقبلا وفي ظل دستور جديد يبدو على ملامحه بعض الوضوح، ويعطي حيزا مهما لفصل السلط ولا يعترف بوزراء للسيادة.. لم يعد لوزراء الحكومة المشكلة كلها من الأحزاب شماعة خفية يعلقون عليها فشلهم أو الإدعاء أن أشباحا تأتي من فوق لتضع العصا في “الرويضة”.. وزير الحكومة المقبلة لم يعد مقبولا أن يقول أنه يطبق برنامج الملك.. من أراد من الآن فصاعدا أن يدخل الحكومة عليه أن يشمر على ساعده وأن يطبق برنامج حزبه وأن تكون لديه الشجاعة لاستخدام “الشطابة”، وأن يتحمل مسؤوليته أمام الناخبين.. ومن لم يستطع فعليه أن يترك منصبه لمن هو أقدر.. فهكذا يفعل الرجال.