رمضان مصباح الادريسي
ربما كنتُ الوحيد الذي رأى في تصدر حزب العدالة والتنمية للانتخابات التشريعية الأخيرة فرصة ليتفرغ لتقوية اشتغاله السياسي الوطني، مودعا المركب الديني الوعر الذي ركبه، وركب به على حركة 20 فبراير، وحتى على المخزن الذي لم يجد بدا من مجاراة هذا "العطيل" الذي لم يعد – في هذا الربيع العربي الأهوج -من حام للمؤسسات سواه.
كأن شيخ بني عبس يخاطب عنترة مرة أخرى: يا عنترة كُرّْ فأنت حر..
كان خطابي البسيط كالآتي:
طيب انتصرتَ يا رجل في انتخابات تعلم جيدا أنها متواضعة جدا من حيث التمثيلية، وتعلم جيدا أن كل زاد حزبك فيها تَدَيُّن المغاربة: حتى قبل "الله الوطن الملك" كانت هناك:
"الدين، لَبْلادْ، ولولاد"؛ تواضَعَ أجدادنا، منذ القديم، وبدون دستور، على أن هذا المثلث هو وحده ما يجعل المغربي يقبل على الموت باعتزاز.
وعليه، فمادام مبتدأ الأمر بهذه الكيفية، فلا داعي لرقصة الفيلة، وتوهم العظمة، وتقاسم النصر مع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، في انتظار انتصارات أخرى لا تفارق أمانيكم أبدا.
اقترحت ليتجدد الحزب ويتحول إلى قوة سياسية تستحق انتصاراتها، وليبرهن على صدق نواياه، أن يتنازل عبد الإله بنكيران عن تشكيل الحكومة، مقدما عليها تشكيل التجربة السياسية التي تأتت له أسبابها، بغتة، من حيث لم يكن يحتسب.
طبعا لم يوجد في القوم رجل عاقل يقدر النصيحة حق قدرها، خصوصا وطبول النصر تقرع حيثما وليت وجهك. انظمت إلى الفيل الراقص ذئاب وثعالب وسلاحف.. وسارت الأمور كما سارت:
تتشكل لا تتشكل .. اليوم غدا وبعد غد.. ثم رحلت الدولة الى عمق الأدغال الإفريقية، وتركتك قائما.
ثم تم النطق بالكلمة السحرية: "البلوكاج". الله، أخيرا أمطرت سماء الفهم على حقول الحزب القاحلة.
إذن صدقت فعلا فتوحاتك، وصرت تنتظر أن يُمد لك البساطُ الأحمر لتعاود المعراج صوب رئاسة الحكومة، لتكرر بها الأخطاء نفسها التي أوقعت البلاد في مديونية لا عهد لها بها، ولتواصل بها الإجهاز على التعليم والصحة العموميين...
والأخطر، كما خاطبتكم يا كبار العدالة والتنمية – أنا الصغير الفاقد للوزن الذي تحبون-عدم حدسكم للحرج الذي توجد فيه مؤسسة ملكية، حمتكم وقدمتكم ونصبتكم؛ وهي تسمع منكم، صباح مساء، أنكم الحماة، وفرسان المعبد الذين لا يشق لهم غبار.
بل وتردفون مهددين: إن يعودوا نعد.
قررت المؤسسة الملكية – حسب سياقات وصولكم-أن تقول للعالم، من خلال حكومتكم: ها نحن نبني أمامكم النموذج الإسلامي المغربي المتكامل، حتى نبرهن لكم على الجانب المشرق والسمح في الإسلام، ولنقنعكم بأن الإسلاميين عندنا يقبلون بالتداول على السلطة، صعودا ونزولا، خلافا لمن يركبون على الديمقراطية، وحينما يصلون يحرقون كل المراكب؛ لأن العودة غير متصورة أبدا في أدبياتهم.
ما أروع لو اشتغلتم مع المؤسسة الملكية على الهدف نفسه، وصولا إلى التنازل عن الانتصار الآني المحدود لفائدة استكمال البناء الديمقراطي للوطن (تجربة النهضة في تونس).
ما أروع لو تواضعتم، ولم تنظروا إلى الأحزاب الصغرى نظرة احتقار، وكأنها لا تركب المركب الوطني نفسه، ولا تسعى إلى مرافئ النجاة في هذه الأزمنة العصيبة، وهذا المحيط الإقليمي المضطرب.
كم كنا سنقدركم لو برهنتم على أن الوطن فوق الحكومة، وأن تشكيل السياسة القوية البناءة على مستوى كل الأحزاب أهم من تشكيل الحكومة.
ماذا يفيدنا الآن أن تتحدثوا عن "البلوكاج" لاستدرار عطف لا يفيد الوطن في شيء؟
وقبله تحدثتم عن التحكم، وكأنكم لم تمارسوه في كل ما قدمتموه من "إصلاحات".
أنتم تنهكون الدولة العميقة وهي تنهككم، حتى جعلتم من المخزن "منبر من لا منبر له". لا حظوا ماذا يرفع الناس في الاحتجاجات والوقفات المطلبية أمام المؤسسات؟
مبتدأ الكلام: "ملكنا واحد محمد السادس". أين المؤسسات؟ أين الإطار الحزبي؟
كل شيء ضيعتموه في التدافع الذي تتقنون.
ضاع المعنى؛ لأننا ما تصورنا قط أن تدخلوا البلاد في كافكوية حكومية قتلت شهية الناس حتى قيل: وماذا بعد نحن بخير، ولو بدون حكومة.
ألم يتملص رئيس الحكومة من تنزيل الدستور؟ هو بدوره كان يقول: وماذا بعد؟ أنا رئيس للحكومة، ولا شأن لي بالدستور. لي ملكي ولكم دستوركم..
ألم يشدد مرارا على أسبقية خدمة جلالة الملك، على بناء الصرح الدستوري لرئاسة الحكومة؟
ألم يبالغ في الاقناع بأن سفينة الحكومة لن تمخر العباب إذا لم يتوفر لها بترول أخنوش؟
أتوجد في العالم حكومة تشكلت معارضتها – برلمانيا – قبل أن تتشكل هي؟
كل هذا ولا يجد الرجل غير الأوراق البيضاء يرفعها؛ لون الرضا طبعا.
ويمضي في تشكيل الحكومة، وليس السياسة لأنها لا تعنيه.
ولو قيل له شكلها بالموتى من وزراء المغرب لفعل، وقدم اللائحة..
وعليه فكل القاموس البكائي المبتكر مجرد لغة تدافع، وعتاد مسافر ماض في طريقه.
هل يصنع الرجل الحدث في الدقائق الأخيرة؛ يتقدم إلى جلالة الملك ويلتمس منه -بناء على مراجعات فكرية وتجربة حكومية - أن يسمح له بالتفرغ لبناء الجسد السياسي لحزب العدالة والتنمية، حتى يساهم في بناء الوطن بما يملكه، وليس بدين يستعيره.
هل يعلم لماذا يقول المغاربة: "الفيش ما يْزيد في الرجلة"؟
هل لنا، بعد كل هذا، أن ننعم بحكومة، كل حقائبها للوطن، حتى يتجدد المبنى السياسي الذي لا يمكن أن نرتقي ضمن الأمم الا به؟