نشرت هذا المقال قبل سنتين، تحت عنوان (لهذه الأسباب...على الدولة حظر النقاب)، أدعو فيه بصريح اللفظ والمعنى إلى حظر النقاب أو البرقع أو اللباس الأفغاني...إلى غيرها من المسميات..هذا اللباس الدخيل على مجتمعنا المغربي وعلى عاداتنا وتقاليدنا المنفتحة...لباس يشيّئ المرأة ويحتقرها من حيث تنمّيطها ككائن شيطاني يثير شهوة الرجال...ينهل من إيديولوجيا دينية متشددة تحارب الجمال وتشيع القبح...أعيد نشر هذا المقال بعد أن قرأت ما أقدمت عليه وزارة الداخلية لمحاصرة هذا اللباس في أفق حظره مستقبلا.
قبل أيام خضت مع صديق لي نقاشا حول "قضية النقاب" في الغرب، فما كان منه إلا أن أصدر حكما جاهزا استنادا إلى نظرية المؤامرة، فاعتبر حظر النقاب ببعض الدول الغربية مظهرا من مظاهر الحرب الشرسة التي يخوضها الغرب الكافر ضد كل ما هو إسلامي.
إن هذا المنظور الذي يستند إلى نظرية المؤامرة في واقع الحال هو السائد عند فئة كبيرة من الناس، بل هو نمط تفكير مجتمع اعتاد التهرب من المسؤولية، ورمي اللوم على الآخرين بدل نقد الذات والبحث عن مكامن الخلل فيها. فليس أسهل من أن نخطئ ونتحجج بأن أخطاءنا تلك نتاج مؤامرة تحاك ضدنا من جهات معينة، لكن إلى متى؟
أعتقد أنه آن الأوان لنجلس جلسة تأمل لواقعنا، نقف من خلالها على تحدياته التي تضع السيوف على رقابنا جميعا. والنقاب في عصرنا هذا يطرح كتحدّ أمني بالدرجة الأولى، وهذا ما يهمّنا بعيدا عن مسألة الحلال والحرام وعن الاختلاف الشرعي في كونه عادة اجتماعية موروثة أم واجبا شرعيا، إذ لا يهمنا هذا المستوى من النقاش الذي سال فيه مداد كثير بين المؤيدين والمعارضين؛ ما يهمنا هو أن نشترك فضاء عاما تتحقق فيه أدنى شروط الارتياح...أن نشكل ذواتا إنسانية لا رموزا مشفرة. ولا شك أن النقاب يتعارض مع هذا المبدأ بالذات.
صحيح أن النقاب حرية فردية، ولكن محاولة استيعاب خطورته باعتباره حرية فردية تحيلنا على أمثلة من الواقع الذي نعيشه ونتغاضى عن التفكير فيه، وإليكم بعض الأمثلة:
- مجرمة مبحوث عنها تتجول في الفضاء العام بكل حرية، يحميها نقابها؛ بل قد يكون مجرما رجلا يرتدي النقاب ولا أحد يستطيع كشف هويته.
- طالبة دخلت لاجتياز الامتحان بدل صديقتها فنقابها يحميها.
- استغلال عاملات الجنس النقاب لتسهيل نشاطهن بالشقق المفروشة؛ بحيث ترتدي عاملة الجنس نقابها وتصعد إلى الشقة لأداء خدماتها، ولا أحد يستطيع اعتراض سبيلها فنقابها يمنحها التوقير.
- تسهّيل النقاب لعملية التسول؛ حيث صار باستطاعة أي امرأة أن تضع نقابا وتخرج للشارع للتسول، لأن النقاب يقيها "الوصم الاجتماعي".
- تسهيل أعمال السرقة والسطو...ويمكن زيارة "يوتوب" لمشاهدة ما سجلته بعض كاميرات المراقبة من عمليات السطو على المحلات التجارية والمصارف... والتي كان سلاحها الأول هو النقاب لأنه حجب هويّات المجرمين فساعدهم على جرمهم.
- عدم صلاحية وواقعية النقاب بالاستناد إلى بعض المساطر الإدارية.. (بطاقة وطنية بها صورة لمنقبة، أو رخصة سياقة، أو جواز سفر...).
هذا غيض من فيض فقط من سيل المشاكل والتحديات الأمنية التي يطرحها النقاب.. صحيح أنه حرية فردية، وجزء لا يتجزأ من الحريات العامة للإنسان، لكنه في ذات الآن يناقض مبدأ الحرية، حرية الآخر في الفضاء العام الذي يشترك فيه مع جميع الناس؛ فمن حقهم أن يعرفوا من هذا المتخفي وراء النقاب... ثم عندما يتعلق الأمر بالجانب الأمني، بأمن الدولة ككل، وبمقاومة التطرف والإرهاب، فإن التساهل مع النقاب سيكون أقرب إلى التستر على المجرمين، خصوصا والتطرف يهدد العالم في أيامنا هذه...
أضيف: لكل هذا لن أدافع أبدا عن النقاب كـ"حرية فردية" مثلما دافعت سابقا عن "الحجاب" و"البوركيني" وغيرها، لأنه ليس حرية فردية بمعناها الحقوقي دائما، فصحيح أن من النساء من تضعه وهي على كامل اقتناع به، ولكن لا بد من الوقوف مطولا عند مفهوم "النقاب" كعنف مادّي من جهة أولى؛ يمارس على المرأة في كثير من الأحيان فيفرض عليها بالسلطة الذكورية للأب أو الأخ أو الزوج، ومن جهة ثانية كعنف رمزي تمارسه الهيمنة الذكورية على النساء فتغلّفه بالمقدّس لتسهيل استدخاله من طرف المرأة...
إني أرفض النقاب لأنه يسيء إلى المرأة المسلمة أولا فيغيّبها وينفي وجودها محلّيا، ويسيء إلى صورتها وصورة دينها في العالم ثانيا، ولأنه خطر أمني على المجتمع ثالثا...أما رابعا وأخيرا؛ فلأنه استعباد واستعمار ذكوري للمرأة، "استعباد" حين يفرض عليها بالقوامة، و"استعمار داخلي" حين تبدو على أتم اقتناع به كأمر إلهي مقدس !!