منذ ظهور الجمهورية الإسلامية الإيرانية عقب الثورة التي قادها أية الله علي الخميني على نظام الشَّاه "رضا بهلوي" الذي كان ملكاً لإيران وجعلها مرتعاً للعبث الأمريكي البريطاني الصهيوني وجعل ثرواتها النفطية رهينة بقرارات البيت الأبيض تلك الثورة التي غيَّرت مسار التاريخ الحديث في هذا البلد،الذي يعد واحداً من أكبر القوى الإقليمية حالياً وذو ماضٍ يضرب بجذوره في أطناب الأرض.
فالحضارة الفارسية التي سادت فيها لمدة أزيد من 2000عام وحكمت نصف الأرض الشَّرقي وتقاسمت نفوذ العالم القديم مع الإمبراطورية البيزنطية الرومانية،فإيران بما تحمله من ارث حضاري وديني وتنوع ثقافي وعرقي ومساحة جغرافية تقدر بأزيد من 1648ألف كلم وعدد سكان يربو عن 73مليون نسمة تحتلُّ العاصمة طهران الصدارة من ناحية ترتيب السُّكان حيث يسكنها أزيد من 10 مليون نسمة يقطن معظمهم في جنوب بحر قزوين،وفي شمال غرب إيران ومنذ إعلان قيام الجمهورية في إيران وتباعها نظاما دينيا تراتبياً يعتنق المذهب الشيعي، فكل المتابعين للشأن السِّياسي في هذا البلد يعرفون بأنه يعتمد نظام "ولاية الفقيه" الذي يحل محلَّ الإمام المعصوم الغائب في أبجديات المعتقدات الدينية الشِّيعية المذهبية الإمامية ألاثنى عشرية،فهو الرَّئيس الفعلي للبلاد ضمنياً فهو من يقرر في السِّياسة الخارجية ويوافق على تعيين الرئيس الإيراني وهو حالياً " السيِّد حسين روحاني" الذي خلف الرئيس السَّابق وعمدة بلدية طهران قبل أن يترشح للرئاسة السيِّد "أحمدي نجاد" كما أنَّه من يوافق على إعلان الحرب أو السِّلم،وله الكلمة الفصل في تعيين مجلس الوزراء وكذلك له الكلمة الطولي في مشروعها النَّووية وتحالفاتها السِّياسية والأمنية والعسكرية الإستراتيجية في المنطقة ويختاره خبراء مصلحة تشخيص النِّظام والمكونة من 82 عضواً يتم انتخابهم من طرف الشعب الإيراني كل فترة 10 سنوات وكان أخرهم السيِّد"علي خامنئي" الذي يشغل هذا المنصب منذ 1989 أي منذ وفاة الخميني القائد الملهم للثورة وأول مرشد أعلى لها، ورغم أنَّ إيران شهدت فترة من الشدِّ والجذب من جيرانها الإقليميين وخاصة العراق وسوريا،حيث خاضت إيران حرباً طاحنةً مع العراق استمرت 8 سنوات وهذه الحرب قد كانت من أهمِّ الأسباب الرئيسية التي ساهمت بشكل كبيرٍ في انهيار نظام "البعث في العراق" سنة 2003وأعطت قوةً ودفعاً لإيران من اجل تطوير ترسانتهاَ من الأسلحة العسكرية المتطورة وخاصة الصَّاروخية منها وبدأت في بناء تحالفات إستراتيجية مع دول كروسيا والصين وكوريا الشمالية الشُّيوعية وشرعت في برنامج نووي سري سرعان ما اكتشفته أجهزة المخابرات الأمريكية والإسرائيلية،وفرضت على البلاد عقوبات اقتصادية وسياسية خانقة أنهكت اقتصادها الذي يعدُّ تصدير النفط أهم ركائزه الحيوية لمدة 10 سنوات متتالية تراجع فيها دخل البلاد من العملة الصعبة،وأنهك اقتصادها بشكل كبير وتضررت مطاراتها وأساطيلها الجوية وخاصة "شركة طهران للطّيران" وقام الغرب بتجميد أصولها وودائعها في البنوك الغربية والتي تجاوزت سقف 150مليار دولار.
وأصبح هذا البرنامج تحت الحصار والمنع والحضر وأصبح عادياً قيام مفتشي "وكالة الطّاقة الذَّرية" بزيارات مكوكية دورية إلى مفاعلاتها النَّووية والتي أهمها "منشأة أصفهان" و"مفاعل بوشهر" منْ أجل البحث عن اليورانيوم أو البلوتونيوم المشَّع ومراقبة نسب التخصيب فيهما،أو مراقبة عمل "أجهزة الطًّرد المركزية"فيها أو غيرهاَ من الأعمال التي تحمل طابعاً استخباراتياً هدفه جمع أكبر قدر من المعلومات عنه من أجلِ استعمالها وتوظيفهاَ مستقبلاً من أجلِ إحراج طهران دولياً،وربما شنَّ هجوماً عسكرياً يستهدفها كما فعلت أمريكا وحلفاءها مع العراق،الذي قامت بغزوه تحت ذريعة امتلاكه "لأسلحة الدَّمار الشامل"ولعب البرادعي يوم كان على رأس "وكالة الطاقة الذرية" دوراً محورياً في ذلك، والكل يذكر كيف ذهبت أمريكا لحرب العراق دون ترخيص من "مجلس الأمن الدولي" في فصله السَّابع لأنَّ روسيا والصين هددتا "بوش الابن" باستخدام "حقُّ الفيتو" ورغم توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5 +1وما نجم عنه من تفاهمات سياسية أعادت بموجبها هذه الدول أموال إيران المجَّمدة و سمحت لها بتصدير النَّفط بكميات كبيرة وأوقفت الحظر الاقتصادي السَّاري المفعول منذ أزيد من 10 سنوات وتقاطرت الوفود والشَّركات الاقتصادية الغربية،على طهران من أجل الاستثمار فيها،وتوقيع عقود بمليارات الدولارات من أجلِ إصلاح البنية الهيكلية الاقتصادية للدَّولة التي تضررت كثيراً وخاصة قطاع النَّقل الجوي والبحري والخدماتي،وفي مقابل ذلك تتعهَّد إيران باستخدام برنامجها للإغراض السلمية فقط وإيقاف تخصيب اليورانيوم المشع والسَّماح لفرق دولية بعمليات تفتيش روتيني دوري لمنشآتها النَّووية،ولكن رغم الانتصار الكبير الذي حققته إيران بقيت سياستها ثابتة في المنطقة من خلال دعم حلفاءها فيها،وعلى رأسهم "النِّظام السوري" و"حزب الله" الذي ما فتات تزوده بالخبراء العسكريين وأحدث أنواع الأسلحة والصَّواريخ منذ ما قبل 2000 إلى اليوم وتعتبره ذراعها القويَّ في لبنان وشوكة في خاصرة إسرائيل الجنوبية وتدعمه إعلامياً عن طريق قنوات كالمنار ومالياً،إذا معروف أنَّ الحزب له ميزانية مستقلة من إيران كل سنة وتحفظ بها توازناتها الجيواستراتيجية هناك، في مقابل "تيَّار المستقبل" المدعوم سعودياً وفرنسياً وحتى أمريكياً.
ففلسفة المقاومة التي يتبناها الحزب والتي راح ضحيتها آلاف الشُّهداء ممن ضحوا بأرواحهم من أجلِ سلامة الأراضي اللبنانية،وردِّ العدوان الصهيوني المتكرر عليها وقد زاد الدعم الإيراني للحزب بعد أداءه البطولي في حرب 2006مع إسرائيل وبعد تدخله عسكريا في سوريا،بعد أن أحسَّ ووصل إلى قناعة بأنَّ الإرهاب لا دين لها وبأنَّ سقوط سوريا هو بوابة لسقوط لبنان أيضاً.
خاصة بعد تصريحات "أبو بكر البغدادي" أنَّه يريد خلافة إسلامية طبعاً تديرها المخابرات الصهيونية والأمريكية،وبأنَّ لبنان سيكون البلد التَّالي هو والأردن بعد الانتهاء من سورياَ واستطاع الحزب أن يغيِّر الكثير من المعادلات على الأرض ويحرِّر كثيراً من المناطق كالزَّبداني وعر سال،والقصير التي اعتبرتها مجلة "فوورين بوليسي" بداية الانتصارات الحقيقية لنظام الأسد وغيرهاَ،وقاتل جنباً إلى جنب مع أفراد الجيش السوري النِّظامي مع جنود من مختلف الطوائف والمذاهب في سوريا وحصل على صواريخِ إيرانية وروسية متطورة جداً حسب أخر تقرير نشره موقع "ولآ الإسرائيلي" وتحدَّث عن حيازة الحزب لأزيد من 130ألف صاروخ متطور على غرار "فجر 5 وشهاب - وصواريخ كورنيت الروسية -المضادة للسُّفن" والدَّبابات.
ولا يخفى على أحدٍ الدَّور الكبير الذي تلعبه إيران في سوريا من خلال تواجد "قوات الحرس -الثوري الإيراني" وجنرالات كبار فيه و"فيلق القدس" إضافةً إلى مستشارين عسكريين إيرانيين وأيضا أزيد من 40 ألف من أفراد الميليشيات المسلحة متواجدون في جنوب البلاد،ومن أهمِّ مهامهم حراسة مخازن الأسلحة ومدِّ الثكنات العسكرية بالمؤن التي وقد استقدمتهم إيران من العراق لمساعدة النِّظام،وأمدَّت إيران النِّظام والدولة السورية بأزيد من 35مليار دولار سنوياً حسب إحصائيات "كريستيان سايس منثور" إذا تمثل سوريا أهمية إستراتيجية هامة جداً لطهران.
إذ أنَّ سقوطها يعني سقوط طهران،فسقوط الأهواز مثلاً يمكن استعادته ولكن سقوط دمشق يعني قطع خطوط الإمداد نحو حزب الله وتغيير الكثير من المعادلات في المنطقة،وأهمها العراق،ولبنان،وفلسطين التي لا يخفى الدَّور الإيراني فيها ودعمها الآمحدود "لحركة حماس-والجهاد الإسلامي" عن طريق الصَّواريخ والأسلحة المتقدِّمة والمناظير الليلية وتدريب كوادرها فوق أراضيها ودعمها مالياً وفنياً ولوجستياً وهذا ما سمح لها بتحقيق نوع من قوة الرَّدع في مواجهة العدوان الإسرائيلي عليها في 2009و2012وحرب غزة الأخيرة سنة 2014كما تمَّ تزويد الحركة بأسلحة أحدث.استعرضت بعضها في أخر عرض عسكري لحماس في القطاع قبل مدَّة بعد "عملية الجرف الصامد الصهيونية" على القطاع. - ولعبت إيران كذلك دوراً هاماً في دعم الحوثيين قبل اندلاع الأزمة عن طريق تدريبهم ودعمهم بالمال والسِّلاح كما يتهمها خصومها،رغم أن اليمن أكثر بلد عربي تتواجد فيه محزونات ضخمة من الأسلحة موجَّهة للاستعمال الشخصي،ووجه المرشد الأعلى الذي خضع مؤخرا لعملية إزالة ورم سلطاني في البروستات السيِّد"علي خامنئي" انتقادات شديدة اللَّهجة إلى السُّعودية وقطر وتركيا من خلال تدخلاتهم الوقحة في اليمن وقيادة الرِّياض لتحالف عربي وإسلامي هدفه السَّيطرة على البلاد وإضعافها،من أجل التواجد على الحدود الجنوبية لإيران،وقد زادت حدة الأزمة بين البلدين اللذان يمثلان تياران دينيان مختلفان طوال تاريخهما أي السُّني الوهابي،والشيعي الرافضي بعد حادثة التدافع الشهيرة في مني في "عيد الأضحى المبارك" ومقتل المئات من الحجَّاج الإيرانيين واختفاء مسئولين إيرانيين سامين وضبَّاط في الحرس الإيراني،تتهم طهران الرياض باختطافهم وتقديمهم للموساد الإسرائيلي مقابل صفقة سياسية.
ولم توضح السُّعودية لحدِّ الآن الأسباب الحقيقة لهذه الحادثة أو تعتذر عنها علناً لطهران وهذا ما خلف امتعاضاً وحنقاً لدى العديد من المسئولين فيها ممَّا قد يؤدي إلى حرب إقليمية قادمة. -السُّعودية التي أصبحت تقيم علاقات أمنية لا تخفى على أحدٍ مع إسرائيل العدو الأوَّل لإيران في المنطقة، وقد تزايدت وتوطَّدت بعد التوقيع على بنود الاتفاق النَّووي وشعور السعودية وتل أبيب أن الأمريكان قد باعوهم وشكلوا حِلفاً إقليمياً.
إضافة إلى الإمارات ومصر والأردن، وقطر وتركيا من أجل الوقوف ضدَّ إيران وسياستها الإقليمية في المنطقة التي يعتبرونها توسعية.ولكن كما يقول "فرانسيس فوكوياما" وغيره،بأن كل دولة إقليمية من حقها المحافظة على مصالحها الحيوية فيها وأمنها القومي حتىَّ ولو أدَّى ذلك إلى تغيير المعادلات القائمة لصالحها.فالعلاقات الدَّولية تبني على "فلسفة المصالح" فليس هناك أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون،ولكن هناك مصالح دائمة وهو نفس المبدأ الذي تتعامل به واشنطن حالياً مع طهران وهذه سياستها الخارجية منذ زمن في إدارة ملفات العالم وقضاياه.ولكن ولأنَّ أل سعود لا يفقهون شيئاً فيها فإنهم صدَّقوا بأنَّ أمريكا ستكون حليفهم الاستراتيجي الذي لن يتخلى عنهم أبداً،وقد تناسوا قراءة التاريخ الأمريكي السِّياسي ونفس القول ينطبق على إسرائيل.
- وكذلك لعبت إيران دوراً محورياً في العراق بعد سقوط " الرئيس صدَّام حسين - ونظام البعث" إذ كانت من أهم الدول التي رأت فيه تهديداً مباشراً لأمنها القومي وسياستها الإقليمية،وبعد الإطاحة به تحولت البلاد إلى ولاية إيرانية أمريكية ثمَّ سرعان ما تراجع النفوذ الأمريكي لصالح إيران التي دعمت "فيلق بدر" و"مقتدي الصدر" و"عصائب أهل الحق" وحتىَّ بعض المقاومة السُّنية المعتدلة من أجلِ إخراج أمريكا منه وإدارته وفق مصالحها،وتعيين رؤساء وزراء تابعين لها كان أخرهم "نوري المالكي" قبل أن تتنازل عن قدر من نفوذها هناك وتقبل أن تتقاسمه مع أمريكا والسُّعودية،وتقبل بتعيين "السيِّد حيدر العبادي" مكان المالكي الذي أصبح ورقةً محروقةً كما كان "الجعفري،و باقر الحكيم" رحمه الله وغيره من السَّاسة ورجال الدِّين الذين وظفتهم من أجل خدمة مصالحهاَ هناك.
ولا ننسى دورها في مصر ومحاولة خلق نواة قوة لها عن طريق الاستثمارات المباشرة في عهد الرئيس المخلوع "محمد مرسي" أو عن طريق دعم أحزاب مصرية والمشروع الإيراني رغم كل ما يقال عنه هو محاولة لإيجاد دور إقليمي هامّ وكبير لها في مواجهة "مشروع الشرق- الأوسط الأمريكي الجديد "وما يحمله من دمار وخراب للمنطقة،ويجعل إيران دولة تدور في فلكها ولكن مع التَّدخل الروسي في سوريا ستتغير المعادلة لأنَّ هناك حلفاً استراتيجياً إيرانياً من أجل التَّعاون المشترك بينهما،وتسليم روسيا لدفعة من صواريخ "أس 300 الجوية الإستراتيجية" ليست إلا مظهراً منه.فهل تنجح السياسة الإيرانية المتبعة في الشرق الأوسط مستقبلا يا ترى؟
عميرة أيسر-كاتب جزائري