لعل الأوراق اختلطت علينا، نحن المواطنين الذين لا أحد من عصافير وعصفورات الحكومة، التي سينعقد سربها قريبا، يُعَرِّج، ولو لبرهة، صوب أغصاننا، لنأنس به، ونفهم عنه ولو القليل من لغة الطير التي أصبح الحواريون، وليس المتحاورون، لا ينطقون إلا بها هذه الأيام.
لم نعد نفهم ماذا يجري في منزل رئيس الحكومة، وفي مقر رئاسة الحكومة الموحش هذه الأيام، وفي رئاسة الحكومة التي تظهر وتختفي؛ خجلا من الدستور الذي لا ينص عليها، وهو الدستور الذي نعرقه كما نعرف أبناءنا؛ من كثرة سعينا من أجل الإقناع به، والتصويت له.
يبدو الأمر أحيانا عبثيا، صبيانيا يذكرنا بأيام الطفولة؛ حينما كانت تطرأ مناكفة تفرق جماعة الدرب، فتتشكل خلايا صبيانية صغيرة؛ بناء على خيار "مْعا مَنْ غادي تَلْعب"؟
ثم بعد جفاء قد يمتد شهورا ينادي منادي الصلح ليجتمع شمل الحومة من جديد، وتمضي الأيام صافية صبيانية إلى أن يقع كدر جديد.
وأحيانا يبدو الأمر في غاية التعقيد؛ حتى تخال أن كل ما يصرح به رؤساء الأحزاب المعنيون بتشكيل الحكومة مجرد زيف ابن زيف.
تضغط عليك قدسية الوطن، وحتى رهبته، شامخا كما شيده التاريخ السحيق، فتقول بينك وبين نفسك: هل هان كلُّ هذا على سياسيينا، حتى أظهروا ما يكفي من العبث، وهم يُلغِزون في تشكيل حكومة للمواطنين، ويَثاقَلون، في عصر السرعة والتواصل؛ وغير بعيد عن ضفاف الديمقراطية والحداثة؟
تتهم فهمك وسوداويتك، فتلتمس العذر للحكوميين، بالفعل أو بالقوة، في المحيط الإقليمي والدولي؛ وتُراجع الخطب الملكية، في الداخل والخارج، ثم تستبد بك أسئلة: "ماذا يريدون منا"؟ وقبله: "أين الثروة"؟ و"أين الإدارة"؟ وتخلص إلى أن الأمر – على الأقل من زاوية النظر الملكية – جد في جد؛ ولا يمكن للسياسيين المخاطبين أن يُفَعِّلوا الهزل حينما يكن الحزم هو المطلوب.
تسائل البرامج الحزبية، مُفترضا أنها وراء كل هذا الخلاف؛ فتتصور أن العمل الحكومي ابتدأ حتى قبل تشكل الحكومة.
يكبر الوطن مرة أخرى في نفسك، وتشعر بعزة المواطنة، وبدفء الخريطة، بل بالعشق الصوفي تجاهها، وسعادة الاستشهاد من أجلها، إذا اقتضى الحال.
تقول: القوم يناطحون برامجهم، ويُصَفُّون السمين من الغث، من أجلك يا هذا، ومن أجل هذا الوطن الذي تُصلي به، حينما يتوهم البعض أنه مجرد تراب يداس.
فلماذا تستعجل حكومة ابتدأت قبل أن تبدأ؟
تبحث وتبحث، فلا تجد غير الخواء. لا أحد من زعماء الأحزاب صرح – احتراما للمواطنين – بأنه يختلف مع فلان من أجل هذه القضية التدبيرية التنموية أو تلك.
هو – مثلا - يريد إصلاح التقاعد على حساب الموظف، وأنا أريده إصلاحا متكاملا يبدأ بمحاسبة المتسببين في وضعية الصناديق الحالية.
هو يخطط لتعليم نخبوي، وأنا أخطط لتعليم شعبي.
هو يرضى بالتنازل عن اختصاصاته الدستورية، وكأنه يتنازل عن أبقار في ضيعته، وأنا أتمسك بالاختصاصات كاملة.
هو يطالب بالحدود التاريخية للمملكة، ولو أغضب الجيران، وأنا أقدم مِلكية القلوب على ملكية الأرض.
وهذه مجرد أمثلة؛ لو جرت وفقها الأمور لوجد المواطنون أنفسهم في قلب البناء الديمقراطي، وليس في ذيله، الذي ليس بعده إلا السقوط النهائي من عربات التاريخ التي تمضي هادرة لا تلوي على تردد المترددين وجبن الجبناء.
ماذا استفدنا ديمقراطيا من تشكيل الحكومة؟
سبق أن تحدثت عن الدروس الانتخابية، خارج التكميم؛ أي ما يتربى عليه المواطن، وهو يستمع إلى نجوم الحملات الانتخابية، ثم وهو يمارس الاختيار مستحضرا هيبة الوطن.
ومن المناسب أن نتساءل، اليوم، عن نوع التربية المواطنية التي تشبعنا بها، ونحن نتابع مسلسل تشكيل الحكومة: حكومتنا طبعا وليس حكومة للاشتغال في المريخ. هل قدمنا للمواطنين أطباقا تفتح شهية المواطنين للعمل السياسي؟ هل دفعنا بشبابنا صوب تصور العمل السياسي المغربي طرقا سيارة توصل، مستقبلا، صوب تحمل المسؤوليات السامية في الوطن؛ أم أقنعناه بأنها مجرد "شانطي" يدمي الأقدام بحصاه وصخره، إن لم يوقع في حُفَره؟
لا أعتقد أننا استفدنا شيئا ينفع في تصحيح الإقبال على السياسة والانتخابات مستقبلا. وأتأسف كثيرا أن يكون كل ما علق في أذهان الناس من ذكريات الولادة "العسيرة" للحكومة يقدم الكذب على الصدق، والعبث على الحزم، والغدر على الوفاء، والتخذيل على المجاهرة بالمطلب والنهج.
لم تفدنا مدرسة المشاغبين هذه في شيء، نحن الذين ننتظر حكومة بالمعايير المصرح بها في خطاب دكار. حكومة تنكب على قلوبنا لترمم عوادي الزمان وبنكيران، الذي أحَمِّله المسؤولية في كل شيء، لأن الدستور لا يرحمه؛ بل أحمله المسؤولية أكثر لأنه نَصَّب عليه، وهو يشكل الحكومة، رئيسا، خارج مقتضيات الدستور.
حقيبة للوطن:
حقيبة لا تُسند لرجل يتحدث لغة الطير، ولا يلتفت للمواطنين؛ وكأنه خُلق ليكون وزيرا ولو بدون مواطنين. (يستوزر الوزير لأن المواطنين موجودون، وهذا ليس بدهيا عند البعض).
رجل يقرأ دواوين العزة والنخوة كلها، حتى لا يُهين الوطن في تاريخه، وفي جغرافيته.
رجل لا يرى توبقال جبلا فقط، بل إماما للصلاة الوطنية، يُسبح خلفه، ويؤدي قَسَم الأنَفَة، بين يديه.
رجل يجاهد في أمية الوطن حق الجهاد، ويُقسم ألا يترك صدرا مغربيا لا ينشرح للعلم، ولا يقطف من ثماره.
رجل يشرك المواطنين في كل بيادر الوطن، وسائر خيراته؛ لأن ملكيتها لم تُحَفظ في اسم أحد؛ وإنما هي ملك عام، لكل مواطن أسْهُم فيه بقدر كده واجتهاده.
رجل لا يُقِر أحدا على ريع، كيفما تجلى؛ ما دام الجميع شركاء في خدمة الدولة.
رجل يرتقي بالوطن عبر معارج لا يرقاها المشاغبون العابثون، الذين يتوهمون أن بوسعهم ركوب الأسد، وجعله بازا للصيد.
فهل تتحمل الحكومة أن يكون ضمنها مثل هذا الرجل؟
وهل يمكن لكل وزير في الحكومة أن يكون فيه شيء من هذا الرجل؟
يمكن إذا استحضرنا، جميعا، أننا بدون هذا الوطن، التاريخي، نتحول إلى قَطيع هَمَل.
فرجاء، لا تحدثونا بلغة الطير.