قبل أربعين عاما كانت الأم المغربية خديجة عزيزي تقيم الأفراح في جنبات بيتها استعدادا لاستقبال مولودها الثاني، في سلسلة خلف تتكون من ثلاثة أطفال وبنت واحدة، وتمني ابنها البكر أمين بأن شقيقا قادما ليملأ جنبات البيت فرحا وبهجة وضجيجا.
في ذلك الزمن الذي يبدو الآن بعيدا، كانت الأم اليافعة تحتفل بعيد ميلادها التاسع عشر فقط وهي التي وبموجب جذورها الأمازيغية تزوجت في وقت مبكر، وهي تعيش سعادة عميقة مع شريكها الذي يشاركها هو الآخر الحلم بقدوم المولود الجديد إلى رحاب عائلة طفار الفتية.
هكذا هي الفرحة في البيت العائلي وبين الجيران على أساس أن تقاليد المنطقة تجعل من فرح العائلة الواحدة فرحة لجميع الجيران، فجاء المولود الجديد صبيا بهيا لكن إرادة الله اختارت له أن يولد من غير يدين ولا قدمين، واختارت له والدته من بين الأسماء "صابر".
في تلك اللحظة الفارقة قررت السيدة خديجة أن تواجه الواقع الجديد بشجاعة نادرة، لم تحزن ولم تبتئس ولم تنخرط في نوبات بكاء طويلة، ولم تخجل من قدر الله مع ابنها، بل اختارت طريقا آخر تماما سماته من التحدي والصبر والرضاء بقدر الله وحكمه في طفلها الثاني.
قناة "الحرة" في بيت صابر:
قالت لي في بيت ابنها في ضواحي واشنطن إنها ومنذ لحظة البدء تلك قررت أن تربي طفلها كما ربت شقيقه الأكبر على أنه كامل المواصفات، وإن عليه أن يواجه الحياة كما أراد له الله، وأطلقت حالة من الفرح بين أبناء الجيران جميعا بلا خوف ولا تردد ولا خوف عليه من كل أشكال وصور الأذى التي يمكن أن تلحق به ولا حتى الخوف عليه من مشاعر العجز وعدم القدرة على مجاراة الآخرين في لعبهم وأفراحهم.
لم تتوقف إرادة الأم خديجة عند هذا الاختيار من الصبر والتحدي، بل استمرت في أحلامها بأطفال آخرين وأنجبت من بعد ابنها صابر شقيقه الأصغر عز الدين، ومن بعدهم طفلتها الوحيدة. وجعلت وهي تفعل كل ذلك من صابر زهوة البيت والرمانة التي تحدث حياة العائلة كافة من حولها.
رغم هذا الصبر الأيوبي في مكان ما من قلب خديجة أقام خوف ما من المستقبل الذي ينتظر ابنها في رحلة الحياة، لذلك وبمعية زوجها أرسلت ابنها إلى المدارس الحكومية التي تفتقر إلى أية معاملة خاصة للأطفال المعاقين، ما جعل شقيقه البكر أمين يتحول إلى البطل الحقيقي في حياة صابر، وهو ينقله على أكتافه من قسم إلى آخر في المدرسة المجاورة للبيت بمدينة الدار البيضاء على أن تقوم الوالدة بنقل صابر على أكتافها إلى المدرسة في كل صباح ومساء.
لم تكن هذه البطولات اليومية تحدث مع صابر من غير أن يحقق ذلك الأثر العميق في نفسه، فكان صابر علامة للنجاح في دراسته ورمزا للصبر والطموح بين جميع أقرانه في مراحل التعليم كافة من المدرسة الأولى إلى المتوسطة بلوغا إلى المدرسة العليا حيث حقق صابر نتائج لافتة وتم تكريمه من قبل محافظ الولاية ليلتفت الجميع لقصة هذا البطل، التي تحدث في كل صباح ومساء وهم عنها غافلون.
كرّم صابر واكتشف المغرب بطلا حقيقيا في التعاطي مع الحياة والصبر على تقلباتها الكثيرة جدا، ليتخذ ملك البلاد قرارا بالتكفل بدراسة صابر في الولايات المتحدة بعد حصوله على منحة لدى إحدى الجامعات الأميركية، ليبدأ بعد ذلك الشاب المكافح رحلة حياة هي أشبه بالأسطورة أكثر منها بالقصة العادية.
هنا في أميركا بدأت ملامح نجاحات أخرى تتحقق في حياة المهاجر الحديث إلى واشنطن حيث كان مطالبا بتجاوز عوائق كثيرة، أولها اللغة والاختلاف الثقافي ونمط الحياة الاجتماعي، لكن باختلاف جوهري هذه المرة، هو وجود الكثير من التسهيلات في مرافق الحياة العامة أمامه على عكس ما كان عليه الوضع في بلاده وكما هو الحال في أغلب الدول العربية لهذه الفئة من الناس لسوء الحظ.
ولأن صابر كان بحاجة إلى رعاية دائمة من والدته، كان عليها مرة أخرى أن تمارس تضحياتها المتصلة لتعيش معه لمدة ست سنوات كاملة بعيدا عن بقية الأسرة التي تركتها من ورائها هناك في المغرب وجاءت إلى هنا للتفرغ لرعاية طموح صابر في النجاح الدراسي والتفوق في الحياة.
بعد فترة من الزمن التحق والد صابر والشقيق البكر أمين هذا الصديق الأبدي لصابر في كل مراحل العمر لحمل صابر إلى مراكز أعلى في الحياة وتحقيق نجاحات أكبر وعلى مستويات أكبر بكثير هذه المرة.
ومع كل تضحية تقيمها عائلة صابر لأجله، ولتحقق المعنى الحقيقي لتلك القناعة التي عاشت بها وعليها وهي جعل صابر رجلا عاديا يسافر مع شقيقيه ويطوف المدن ويبكي ويفرح تماما كما يفعلون، ويدرس في المدارس والجامعات والتفوق كما يفعلون بل أكثر من ذلك، جعل صابر هو الطفل الأكثر شقاوة بين أبناء العائلة من خلال ابتكاره للأفكار الجريئة، فيما يعمل الشقيق الأصغر عز الدين على تنفيذها ويضمن صابر من جانبه مراقبة عودة الأم إلى البيت خلال خروجها للتسوق وزيارة بقية أفراد العائلة.
كانت هذه بعض المحطات من ذاكرة الطفولة التي قاسمني إياها الشقيق البكر لصابر أمين ونحن نتقاسم الغداء على الطبق المغربي الأشهر على الإطلاق بين دول المغرب العربي "الكسكس" في بيت صابر بشمال فرجينيا بالقرب من واشنطن.
استعاد معي صابر على مائدة الغداء تلك الكثير من المحطات في أميركا وهي محطات تعددت كما تنوعت، واستعاد بمحبة كبيرة تضحيات الفقيد والده الذي كان دائما يلبي نداء صابر في أي طارئ تحتاجه التزاماته الجامعية في البدء قبل أن يلتحق بوظيفته بعد الفراغ من دراسته.
في هذه المرحلة تحديدا من حياة صابر تحدث قصة أخرى مثيرة هي أيضا للإعجاب، ألا وهي قصة لقائه بزوجته الحالية أمبر هذه الأميركية البيضاء القادمة من ولاية ويست فرجينيا للدراسة والعمل في العاصمة واشنطن.
لصابر قلب أحب هذه المرأة سريعا، وتبادلا الحديث في مناسبة عشاء دعيا إليها كلاهما في بيت أحد الأصدقاء بميريلاند قبل أن يتفقا على بناء علاقة صداقة تطورت أكثر، وأخذ فيها الإعجاب المتبادل يكبر مع مرور الزمن إلى أن تحول الإعجاب إلى حب وتنتهي هذه العلاقة العظيمة إلى زواج يسعد قلبيهما حاليا في عائلة هي نموذج للتسامح والعطاء من غير حدود والمحبة الخرافية.
تنضم إلى حديثنا أمبر التي كانت منشغلة لحظتها بفتح هدايا عيد الميلاد لطفليها بعد عودتها من بيت عائلتها في وست فرجينيا. تقول لي إنها وجدت في صابر قصة بطولة حقيقية في الحياة، وهي تعرف في حياتها أن ذوي الحاجات الخاصة في العادة
يستسلمون لأقدارهم وفي أفضل الأحوال يحاولون وينتظرون المساعدة من الحكومة والآخرين، لكنها وعلى العكس من ذلك وجدت صابر مكافحا ومكابرا لأجل النجاح في الحياة، وفعل ذلك بتفوق رغم جميع العراقيل والصعوبات التي واجهته في الحياة، الأمر الذي أقنعها وبقوة أن صابر يقوم بجميع الأفعال التي يقوم بها الأصحاء فقط على نحو مختلف عن الآخرين.
لم يكن القرار سهلا وصابر يعلن رغبته في الزواج من أمبر والأسئلة حولها كانت أكبر من تلك التي كانت لديها، لكنها اختارت أن تنتصر كما تقول لقيمة القبول بالآخر.
لدى أمبر فلسفة عميقة جدا على هذا الصعيد، وهي تشرح لي فكرتها أن اختلافها الثقافي والعرقي والديني والجغرافي عن صابر لم يمنعهما أبدا من بناء علاقة جيدة تقوم على الاحترام المشترك والعميق والمتبادل بينهما وأنهما في حالة تعلم دائمة من بعضهما البعض.
لقد كانت ثقافة المغرب بزخمها المتعدد والمتنوع عالما رحبا اكتشفته أمبر في حياة صابر وعائلته من حوله، وكان صابر قد وجد في شريكته الشريك الأفضل له في الحياة وأنجبا معا طفلين جميلين ورائعين هما مركز العائلة في كل لحظة.
عن ذلك تقول أمبر إنها تواجه كثيرا من نظرات الاستغراب في الشوارع وكثيرا من الأسئلة عن حالة زوجها، لكنها تصر على أنه سيكون من الأفضل لنا جميعا أن نسأل الآخرين الذين يختلفون عنا بدلا من إصدار الأحكام الجاهزة في حقهم، لأن ذلك وحده يحقق فضول المعرفة في أجمل الصور الممكنة.
ولأن قصة صابر بكل هذا الإدهاش والاختلاف والنجاح، قرر صابر أن ينخرط في عمل خيري واسع في منطقة واشنطن الكبرى بإطلاق منظمته الخيرية "مصدر الأمل"، وهي التي يعمل من خلالها خارج أوقاته بعد الفراغ من التزامات وظيفته الحكومية المتطلبة جدا في الكومبيوتر، يعمل على تقاسم تجربته وكفاحه في الحياة مع الجنود العائدين من حربي أفغانستان والعراق ومع الشباب اليافعين في المدارس المتوسطة والعليا وآخرين في المراكز الاجتماعية ومراكز الشباب، ولقاءات أخرى مع مرتادي المساجد والكنائس وفي كل ذلك يعلم صابر الآخرين من خلال تجربته في الحياة قوة وضرورة التمسك بالأمل.
لا يكتفي صابر بأن حقق هذا النجاح مع نفسه بل أنه يريد لجميع الناس من حوله أن تكون في حالة نجاح وفرح وسعادة دائمين.
قبل أن نغادر بيت صابر الهادئ والعامر محبة، أصر وتماشيا مع تقاليد الضيافة المغربية أن يدعونا على كأس قهوة من تحضيره هو شخصيا، وهنا كانت أمامي فرصة لرؤية واحدة من أكثر الملاحم التي يمكن أن نراها في الحياة لقوة إنسان وعزيمته في التحدي ورفع سقف الإرادة إلى حدوده القصوى، فكانت تلك القهوة التي شربت من كرم صابر هي الأطيب من كل "القهاوي" التي شربت في كل مدن العالم.
ودعت صابر وأنا اقول له "شكرا" لأنك بيننا ولأنك تساعدنا على إعادة ترتيب العالم فينا ومن حولنا.