لـمّا ضعُف شأن الدولة العباسية، وانصرف الوزراء للكسب، وجمْع المال بالزيادة في الأسعار، واستهداف أرزاق الرعية، مع التضييق على الناس في كسب أقواتهم، صار همُّ هؤلاء الوزراء، هو منْع الملوك من مطالعة التاريخ أو السِّيَر، خوفا من أن يفطن الملوك إلى أشياء لا يحب هؤلاء الوزراء أن يفطن لها هؤلاء الملوك.. قيل إن [المكْتفي] طلب من أحد وزرائه كتبا يلهو بها، ويقطع بمطالعتها وقته، فاختار له هذا الوزير كتبا فيها شيء مما جرى في الأيام السالفة من وقائع الملوك، وأحداث التاريخ، وأسباب الفتن.. فلما رأى كبيرُ الوزراء ذلك، وبلغه محتوى تلك الكتب التي يُراد تقديمها للخليفة ليقطع بها وقته، غضب وقال للوزراء بعدما جمعهم: [والله إنكم أشدّ الناس عداوةً لي.. أنا قلت لكم حصِّلوا له كتبا يلهو بها، ويشتغل بها عنّا، وأنتم حصَّلتم له كتبا تاريخية، يعرف بها خراب البلاد من عِمارتها.. رُدُّوا هذه الكتب، وحصِّلوا له كتبا فيها حكايات حبّ وغرام تلهيه، وأشعارا تطربه؛ ففعلوا..].. اُنظر كتاب [التمدن الإسلامي] المجلد الثاني؛ الجزء الثالث؛ صفحة: 97 لجرجي زيدان..
أليس هذا سيدي القارئ الكريم، وأنت سيّد العارفين، ما يقوم به الوزراء وأمناء الأحزاب، ورؤساء المجالس، وملاّكو الجمعيات، وزعماء النقابات، وشعراء مراكز الأبحاث، ومطربو القنوات التلفزية في بلادنا، حيث الوطن ينحو نحو الهاوية، والأحداث المأساوية تتناسل، وتنذر بمستقبل قاتم السواد، من مواطنين يحرقون أسجادهم، وآخرون يشنقون أنفسَهم، وآخرون يقتلون أشباهَهم، وآخرون استقطبهم الشيطان ومات فيهم الإنسان؛ كل ذلك بسبب مظالم لا تعدّ ولا تُحصى، والظّلَمة يتداولون، ويتناحرون على المناصب، ويتآمرون على الشعب، ولمال الأمّة في ما بينهم يوزّعون، وسفينة الوطن تسير نحو إعصار اجتماعي مدمِّر، وبركان يغلي تحت قشرة أرض البلاد، وحرارتُه يوما بعد يوم تزداد، والله أعلم متى سينفث حِمَمَه التي لن تُبْقي ولن تذَر؛ هذا مؤكد.. تراهم يفعلون، وكأنهم معصومون من مفاجآت التاريخ، ومن شدائد الدهر، ولا يحسبون أنفسهم يعيشون في مجتمع بشري، فيه حياةٌ تسري، وفي عروقه دماءٌ تجري، بل يرونه مستنقعا راكضا، ويجهلون أن المستنقع يعجّ في باطنه المخفي بتفاعلات، وبحركة لا تنتهي؛ وكلّما خرج الشعب إلى الشارع يطالب بحقوقه، وينادي برفْع المظالم، واجهوه بقوات من الشعب نفسه، تضربه، وتقمعه لمصلحة الجُباة، الجفاة الجناة في حق شعب مظلوم؛ وكلّما أضرب، ضربوه في مقتل من مقاتل عيشه، واقتطعوا من رزقه، وأضافوا مبالغَ ما اقتطعوه إلى جيوبهم، ثم تحدّثوا عن الديموقراطية، والحقوق، والكرامة، والتنمية، وهي أشباه ألفاظ، سفّهها الواقع، ولم يعُدْ يصدّقها المواطن، بدليل امتناعه عن التصويت.. لكن هذه المسرحية لابد لها من نهاية، ولن تكون نهاية سعيدة، بل نهاية شكسبيرية لا محالة.
هؤلاء عندنا ألهاهُمُ التكاثر، وفقدوا كل صلة بالواقع، وهو بالضبط ما حدث لـ"هتلر".. فلما شاهد شريطا إخباريا مصوَّرا للجيش السادس في [ستالينغراد] وهو يُقتاد إلى السجون الروسية، قال إنه لا يلحظ على وجوه الجنود البؤساء أيّ تذمُّر أو يأس؛ فبالله عليك سيدي القارئ الكريم، هل هذا رجل عاقل، فيما مأساة الجيش السادس كانت بداية النهاية للرايخ الثالث، وكان إعلام "غوبلز" يتحدث عن انتصارات، تماما كما يفعل هؤلاء عندنا عبر إعلامهم المضلّل؟ فإذا كان مواطن يبكي، قالوا إنه يذرف دموع الفرح.. وإذا كان يرتعش بردا، قالوا إنه يرقص.. وإذا ألقى بنفسه من طابق علوي، قالوا إنه كان عالما يريد مقاومة الجاذبية.. وإذا غرق في البحر، قالوا إنه رياضي كان يريد دخول موسوعة "غينس" للأرقام القياسية في السباحة.. وإذا أحرق نفسَه، قالوا كان يقوم بتجربة لمعرفة مدى مقاومة الجسد للنار الملتهبة.. وإذا مات جوعا وبردا في قمة جبل، قالوا إنه كان بطلا من متسلّقي الجبال.. وإذا ذهب وزير إلى "البيرو" حيث توجد إحدى العجائب السبع، وهي [مانْشوبيكْتشُو]، قالوا ذهب لخدمة القضية الوطنية.. وإذا قيل هل البرلماني يستحق تقاعدا مريحا بعد نوم 05 سنوات، لا كمهنة شاقة، بل كمهمّة، قالوا لماذا التحدث عن [جوج فرنك].. وإذا أضرب المظلوم عن العمل، اقتطعوا من أجره بدعوى الأجر مقابل العمل، فيما هم يصيبون الملايين وهم قُعود.. أما بخصوص أصحاب الفتن في الستينيات، والمشاركين في الانقلاب، فقد أُنشِئَت لهم هيئة الإنصاف والمصالحة، ونالوا الملايين "الـمُمَلْيَنَة"، جزاءً لهم على ما أسْلفوا؛ فيما شهداء [أكديم إيزيك]، الذين ماتوا من أجل راية الوطن، وُضعت أمامهم العراقيل، وقامت منظّمات تدافع عن القَتلة والمجرمين، وعن حقّهم في الحياة، تماما كما يدافعون عن الشواذ، وعن حقّهم في الفسق والفجور في هذا الوطن.. فهل هؤلاء لهم حسٌّ بالواقع؟ هل هؤلاء لهم حسّ وطني؟ هل هؤلاء لهم مشاعر إنسانية أم هم مجرد بطون متدلّية، وقرافد متنية، وجلود ملوية، وعقول خاوية؟ أعتقد أنهم كذلك.