تنص المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة (1948) على أنه "لكل شخص أن يتمتع بالحقوق وكل الحريات المعلنة في هذا الإعلان دون تمييز، وسيما ما كان قائما على أساس من الجنس أو اللون أو النوع أو اللغة أو الدين". أما المادة الـ(18) من الإعلان العالمي نفسه، وهي مخصصة بأكملها للمجال الديني، فتقرر ما يلي: "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين. وهذا الحق ينطوي على حرية تغيير الدين أو المعتقد وكذلك حرية إظهار دينه وإبداء معتقده بمفرده أو في جماعة، وسواء أكان ذلك جهاراً أم خفية، وكذلك بالتعليم والممارسات والتعبد وإقامة الشعائر". وقد تمت إضافة "حرية تغيير الدين" بناء على اقتراح ممثل لبنان شارل مالك، بسبب الوضع السائد في بلاده، إذ يلجأ إليها أشخاص يضطهدون بسبب إيمانهم الديني، أو بسبب كونهم قد تحولوا من دين إلى دين آخر؛ إلا أن هذا النص لم يكن ليمر دون أن يثير رد فعل من جانب الدول الإسلامية، إذ إن الإسلام يتحفظ على الحرية الدينية، وبصفة خاصة عندما يتعلق الأمر بترك الإسلام والارتداد عنه حسب الشريعة الإسلامية إلى عقيدة دينية أخرى، فقد اعترض ممثل المملكة العربية السعودية على "حرية تغيير الدين"، وانضمت العراق وسوريا إلى ممثل السعودية، ولكن بلا طائل، فقد رفض اقتراحهم واعتراضهم. أما مندوب مصر فقد أبدى بدوره تحفظا فيما يخص "حرية الدين"، وبصفة خاصة فيما يتعلق في الحق في تغيير الديانة؛ وذلك لأن الإيمان الديني، وفقا لما قاله، "يجب ألا يغير بلا تروّ أو تفكير، وكثيرا ما يغير الرجل ديانته تحت مؤثرات خارجية كالطلاق". وكان مندوب مصر، وهو الدكتور محمود عزمي، يخشى من إعلان حرية تغيير الديانة أو المعتقد، إذ سيشجع من اعتقدوا بالمسيحية أن يعلنوا عن أنفسهم كما هنا بالمغرب. وهذا سيربك الوضع الديني بمصر المرتبك والمهزوز أصلاً من لدن المتحولين دينياً من الإسلام إلى المسيحية، أو غيرها من المعتقدات الدينية الأخرى كالبهائية مثلاً الموجودة بمصر، بالرغم من الملاحقات الأمنية لها، والأحمدية النحلة المؤسسة على القرآن والسنة كما يقول مدعيها بمصر، مثل المفكر الراحل كمال ثابت.
كما أعلنت بعض المواد بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمواثيق الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية المعلنة، المصادق عليها في (16 دجنبر 1966)، صراحة وبوضوح، عن الحق في "حرية الاعتقاد"؛ وذلك استنادا إلى المادة الـ(18) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة الـ(9) من الاتفاقية الأوروبية، والمادة الـ(13) الفقرة الثالثة من الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمواد الـ18 والـ19 والـ20 الفقرة الثانية من المادتين الـ26 والـ27 من الميثاق المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية.
كانت تلك المواثيق الدولية الحقوقية إعمالا لما جاء في المادتين الرابعة والخامسة من إعلان الأمم المتحدة بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو العقيدة، من ضرورة قيام الدولة باتخاذ كافة التدابير لمكافحة التعصب القائم على أساس الدين أو المعتقد واستئصال أي تمييز يجري من هذا المنطلق. كما كانت إعمالاً كذلك لما جاء في المادتين الخامسة والعشرين من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بضرورة أن تحظر الدولة أية دعوة للكراهية الدينية تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف، وأية جماعة أو شخص أو أشخاص يقومون بنشاط يستهدف إهدار أي من حقوق الإنسان المعترف بها عالميا والمصادق عليها.
وإذا كانت هناك اليوم بعض الخرجات الإعلامية لمسيحيين مغاربة، فإن هناك مسيحيين وجودهم محاط بسياج كثيف من الصمت والسرية؛ فالعائق الحقيقي لهؤلاء وغيرهم من أصحاب الأفكار والمعتقدات والنحل الأخرى هو في تمتيعهم بكل الحقوق المنصوص عليها دوليا، والتي صادق عليها المغرب، إذ يعتنقون معتقدات مخالفة للخطاب الرسمي الذي يؤكد أن دين الدولة هو الإسلام، مع العلم أننا لا يمكننا أن نقول إن دين الإسلام هو دين الشعب، فهؤلاء وغيرهم من الشعب. ولا يمكننا أن نختار لهم معتقداتهم التي تكتسب مثلها في ذلك مثل "اللغة"، فالدين يكتسب ولا يفرض ولا يعطى، وهو في الأخير تجربة روحية فردية لا تباع ولا تشترى، ولا يمكننا أن نماثلها بين شخص وبين آخر؛ فمنذ دستور موريس دوفيرجي (7 دجنبر 1962) ودستور الفاتح من يوليوز (2011)، لا نرى اعترافا بالمسيحيين المغاربة، فالخطاب الرسمي للككفونيا المخزنية الجديدة، يعترف فقط بوجود الأقلية اليهودية التي استوطنت المغرب (طنجستا) منذ (1000 ق.م) بالرغم من وجود مسيحيين مغاربة على أراضيه، يكفل وجودهم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة الـ(18)، التي صادق عليه المغرب؛ فالمسيحيون المغاربة هم، في نظر الأطياف الإسلامية المحافظة مثلاً، مرتدون عن الإسلام. وخير دليل على ما نقول هو ما صدر بجريدة السبيل، ذات التوجه السلفي في عددها رقم 233 والصادر بتاريخ 29 دجنبر 2016.
كما أن المادة الـ(220) من قانون العقوبات الجنائية تعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات كل من يستعمل وسائل إغراء لزعزعة إيمان مسلم وتحويله إلى دين آخر - فهل في الحقيقة يزعزع شخصاً ما عن معتقد معين؟ أم يقتنع ويؤمن بما بدا له حقيقة دينية معينة؟
فلا يزال المسيحيون المغاربة اليوم يقيمون طقوسهم اللوترجية (القداس) بأماكن إقامتهم؛ لأن المغرب لم يعترف بوجود كنيسة مغربية على أراضيه، كما يقول الكاتب والصحفي عبد الحميد العوني، بالرغم من محاولة البعض منهم من إقامة هذه الطقوس علانية، حسب بعض المصادر الصحافية.
إن المسيحيين المغاربة يعيشون بين رفض المجتمع لهم وقبولهم، وبين التعتيم الإعلامي الذي يحولهم إلى مجرد أشباح؛ غير أن بعضهم مصر على الاعتراف بهم من داخل وطنهم وليس من خارجه. وهذا ما يتمنونه من خلال حضورهم للمؤتمر الدولي لحقوق الإنسان بمراكش (27 - 30 نونبر الماضي) وتأطيرهم للورشة الموضوعاتية حول "حرية الضمير والمعتقد مسؤولية مجتمعية" بشراكة مع "حركة ضمير" التي أثارت ضجة إعلامية غير مسبوقة حول المسيحيين المغاربة، وطرح مقاربتهم لـ"حرية الاعتقاد" التي حذفت من المسودة الأولى للدستور المغربي بشهادة أعضاء في اللجنة الملكية لصياغة الدستور؛ مثل محمد الطوزي، أستاذ العلوم السياسية، والذي كان حاضرا لتلك الورشة الموضوعاتية الساخنة والمثيرة للجدل السياسي.
وإذا كان التقرير الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، حول الحريات الدينية في العالم لسنة (2012)، أشاد بجهود الحكومة المغربية في مجال تعزيز الحريات الدينية بفضل ما قال إنه "ضمانات دستورية وشرعية تسمح بحرية المعتقدات الدينية بالمملكة"؛ فإن هذا التقرير لا يتكلم عن المواطنين والمواطنات المغاربة، بل يتكلم عن الحرية المكفولة للأجانب فقط ولليهود المغاربة، فكيف لنا أن ندعي أن هناك "ضمانات دستورية وشرعية تسمح بحرية المعتقدات الدينية بالمملكة"؟
إنها السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ليس إلا! إذ أكد جون كيري، وزير الخارجية الأمريكية، بمناسبة إصدار تقرير الحريات الدينية، أن "الحرية الدينية تمثل أولوية للرئيس باراك أوباما وله كوزير للخارجية"، مشيراً إلى أن "الحرية الدينية تمثل جزءا من الانخراط الدبلوماسي العالمي للولايات المتحدة الأمريكية". ووصف التقرير الأمريكي، الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، أيضاً، أن التدين السائد بالمغرب بأنه "إسلام معتدل ومتسامح"؛ وهو ما تؤشر عليه حرية المعتقد التي يتمتع بها اليهود المغاربة والجاليات المسيحية الأجنبية، مبرزا أن اليهود والمسيحيين مسموح لهم في البلاد بأداء شعائرهم الدينية دون أي تضييق". وأفرد التقرير الأمريكي، الذي صنف المغرب بعيدا عن خانة "الدول التي تثير قلقا خاصا" وتعني الحكومات التي تتساهل إزاء انتهاكات الحريات الدينية، حيزا مهما لوجود الأقليات اليهودية والمسيحية (الجالية المسيحية) بالبلاد؛ فقد أورد بأن "الحكومة المغربية تقر إعفاءات ضريبية وجمركية، كما تمنح مساعدات وعقارات لمساعدة المسلمين واليهود والمسيحيين الذين يعيشون بالمملكة على ممارسة شعائرهم الدينية". وأكد تقرير الدبلوماسية الأمريكية أنه في المغرب لا يوجد حظر لارتداء اللباس الديني أو الرموز الخاصة بالأقليات اليهودية أو المسيحية، سواء في الأماكن العامة أو الخاصة؛ وهو ما اعتبره التقرير تكريسا لسياسة البلد نحو التسامح الديني. وأشار المصدر إلى مساعي المغرب إلى تكريس الحوار بين الأديان؛ وذلك من خلال تدريس التراث الثقافي والفني والعلمي والأدبي اليهودي ببعض الجامعات المغربية، في إشارة إلى تعليم اللغة العبرية والدراسات الدينية المقارنة بشعبة الدراسات الإسلامية بجامعة محمد الخامس بالرباط. ولم يفت التقرير تسجيل أن اللغة العبرية تُدرّس من لدن اثني عشر أستاذا بمجموع المملكة المغربية، وأيضاً إلى تمثيلية أفراد الجالية اليهودية بالمغرب على أعلى مستوى بالدولة في إشارة إلى مناصب سامية يتقلدها اليهود المغاربة؛ من بينها منصب أندري أزولاي، مستشار الملك محمد السادس.
ولا يعني هذا التقرير أن السلطات المغربية تتسامح مع المسيحيين المغاربة، إذ صحح هذا التقرير ما سقط فيه من مغالطات في تقريره الأخير لسنة (2015).
إن حرية العبادة، التي تحدث عنها أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية (أبريل 2013)، لا وجود لها ما دام المسيحيون المغاربة يعقدون اجتماعاتهم في البيوت وليس في أماكن العبادة الرسمية. وأقصد هنا البنايات الكنسية الموجودة على التراب المغربي، فـ"الكنيسة لا تزال متابعة من لدن السلطات في جميع أنحاء المغرب؛ وهو ما زاد الوضعية سوءا.. فالدولة المغربية كًونت شبكة اتصالات من أجل الحصول على معلومات تتعلق بالمسيحيين في جميع أرجاء المغرب، وليس فقط في مناطق محددة؛ وذلك بهدف واحد هو تخويفهم وإسكاتهم، حتى ولو وصل الأمر إلى تهديدهم بالسجن" (متابعة لجريدة هسبريس الإلكترونية = الخميس 6 يونيو 2013).
وقد أصدر المجلس العلمي الأعلى (هيئة دستورية) فتوى بقتل المرتد؛ وهو ما يبين عدم تسامح السلطات المغربية مع "حرية الاعتقاد". ووفقا لما ورد في الصفحة 285 من الكتاب، الذي يحمل عنوان "فتاوى الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء 2004 - 2012" والمتضمن لـ"الفتوى" المُثيرة للجدل الصادرة عن المجلس المذكور والتي تجيز قتل أي مغربي مسلم ارتد عن دين الإسلام، فإن "الفتوى" موضوع الجدل جاءت استجابة لطلب من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بعد توصلها بطلب من المندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان حول موقف الإسلام من "حرية العقيدة"؛ وذلك في إطار تحضير التقرير الدوري السادس لإعمال العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وحسب مصدر مأذون من المجلس العلمي الأعلى، فإن الأمر لا يتعلق بفتوى وإنما برأي فقهي. وفيما يلي الرأي الفقهي حول حرية المعتقد والدين: "وهذه المسألة تناولها الشرع الإسلامي، وأبان حكمه الشرعي فيها، وفصل فيها بالنظر لمن يكون معنيا بها من المسلمين وغير المسلمين، فبالنسبة لغير المسلمين من أهل الكتاب والديانات السماوية الأخرى، لم يأت الإسلام بما يكره أحدا منهم على الخروج من دينه أو يجبره عليه بالقوة ولا بما يسيء إلى أماكن طقوسهم من الكنائس والبيع وغيرها، وذلك ما تشير إليه الآية الكريمة (256) من سورة البقرة: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ"، والآية (99) من سورة يونس: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ".
وبذلك، كفل الإسلام لغير المسلمين حرية المعتقد والدين حال وجودهم بغير بلادهم من أرض الإسلام، شريطة ألا يمسوا شيئاً من مقدسات المسلمين، وأن لا يجاهروا بما هو محرم في شريعة الإسلام، ولا يحرض مسلما على الخروج من دينه، وأن لا يثيروا في المسلمين فتنة. أما بالنسبة إلى المسلمين في شأن حرية المعتقد والدين، فإن شرع الإسلام ينظر إليها بنظر آخر، (ما هو هذا النظر الآخر؟)، ويدعو المسلم إلى الحفاظ على معتقده ودينه وتدينه، وإلى التمسك بدينه الإسلامي وشرعه الرباني الحكيم، ويعتبر كونه مسلما بالأصالة من حيث انتسابه إلى والدين مسلمين أو أب مسلم التزاما تعاقديا واجتماعيا مع الأمة، فلا يسمح له شرع الإسلام بعد ذلك بالخروج عن دينه وتعاقده الاجتماعي، ولا يقبله منه بحال، ويعتبر خروجه منه ارتدادا عن الإسلام.
*عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية مدى