سعيد نافع
الوجوه الإعلامية المتميزة عديدة وكثيرة، لكن القليل منها تدخل خانة ‘‘ اللانسيان‘‘. جون كريستوف فيكتور واحد من أيقونات التلفزيون، التي شقت طريقها في صمت كبير وصبر وأناة، إلى أن شاع وميضها في السنوات الأخيرة، وتحول موعدها اليومي ‘‘ تحت الخرائط ‘‘ إلى قداس معرفي يجتمع حوله العارفون قبل الفضوليين لاكتشاف المفهوم الجديد للبرنامج التلفزيوني : السياسة التطبيقية على جغرافية الخريطة. جون كريستوف فيكتور الذي انتقل على بلاتوهات القنوات التلفزيونية الفرنسية على امتداد ثلاثة عقود، قبل أن ينتهي به الترحال على القناة الفرنسية – الألمانية العالمة ‘‘ أرتي ‘‘ قبل سنوات، كان اختصاصي الشرح المبسط لأعقد مشاكل ‘‘ الجيوبولوتيك ‘‘ في العالم، بطريقة تربوية مباشرة، تعتمد تفسير كل العلاقات المعقدة داخل مشكل ما، من خريطة البلاد المعنية. ‘‘ تحت الخرائط ‘‘ الذي تنتجه قناة ‘‘ أرتي‘‘ منذ ستة وعشرون سنة، أصبح مطلوبا في باقي القنوات الفرنسية، والفرنكفونية، وبلغ متوسط متابعته الأسبوعية ال12 مليون شخص حول العالم . جون كريستوف فيكتور كان أيقونة المعرفة السياسية في التلفزيون. كان … لأنه فارق هذا العالم على نحو مفاجئ ليلة 28 دجنبر الماضي.
ليلة 28 دجنبر الماضي كانت زوجته، فيرجيني رايسون، التي أدارت معه ولسنوات عديدة أيضا ‘‘ مختبر الدراسات السياسية وتحليل الخرائط ‘‘ هي من نعت خبر موته على مواقع التواصل الاجتماعي قائلة ‘‘ لقد فقد أبنائي الأربعة والدهم وفقدت أنا شريك حياتي العزيز، وفقد العالم وميض جون كريستوف المعرفي . أتوقعه الآن في السماء إلى جانب والديه وباقي عظماء التاريخ، أولئك الذين تفانوا في تقديم الأهم للبشرية ‘‘ .
الخبر نزل كالصاعقة صبيحة الخميس الماضي . جون كريستوف فيكتور يغادر الحياة إثر أزمة قلبية حادة عن سن التاسعة والستين. موقع التويتر للتواصل الاجتماعي ازدحم بتغريدات، تبكي صديقا و زميلا لامعا، أو تنعي شخصا كرس كل مشواره المهني والعلمي للبحث ونشر المعرفة . الباحث السياسي باسكال بونيفاص، مؤسس ومدير ‘‘ معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية ‘‘ حيى في تغريدة ‘‘ رجلا عفيفا كان عشقه الأول نشر المعرفة على الجميع ‘‘ . بونيفاص كان قد شارك جون كريستوف فيكتور الخطوات الأولى لإنشاء ‘‘ مختبر الأبحاث والدراسات الخرائطية ‘‘ المختبر المتخصص في الجيوبوليتيك والعلاقات الدولية .
وللمفارقة كادت تصاريف الحياة أن تحرمنا من العطاء الكبير لهذا الرجل مبكرا . فقد أجرى جون كريستوف فيكتور عملية للقلب المفتوح عندما كان في العاشرة من عمر سنة 1958. والدته التي كانت صحفية سردت في مجلة ‘‘ إيل ‘‘ الفرنسية تفاصيل العملية التي أجريت لابنها في مستشفى أمريكي بمدينة مينيابوليس. صدى العملية وصل لفرنسا حيث استغلت إذاعة ‘‘ أوروب 1 ‘‘ الحدث لتطلق حملة شهيرة تضامن معها كل الفرنسيين تحت إسم ‘‘ قلب طفل ‘‘. التعاطف الكبير مع الصغير جون كريستوف سمح لفرنسا بالحصول على أول ‘‘ فضاء جراحة ‘‘ خاص بعميات قلوب الأطفال .
أتقن جون كريستوف فيكتور اللغتين الصينية والفارسية. خبير ‘‘ الجيو بوليتيك ‘‘ وصاحب فكرة برنامج ‘‘ تحت الخرائط‘‘ الذي أنتجته القناة الفرنسية الألمانية أرتي على مدى 26 سنة، حاصل على ديبلوم في الدراسات واللغة الصينيتين من المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية. تقدم بطلب للعمل في وزارة الشؤون الخارجية خلال سبعينيات القرن الماضي للحصول على عمل في بكين … لكنه الأمر انتهى به كملحق ثقافي في سفارة فرنسا في كابول .
نشر جون كريستوف فيكتور عددا من الأبحاث، كمتخصص في الإثنولوجيا ( علم الإنسان ) وباحث دائم عن نشر المعرفة بطريقة سلسة ومبسطة. مطلع تسعينيات القرن الماضي، طور تركيبة برنامج غير مسبوق على شاشات التلفزيون، تعتمد الخرائط في عرض الرهانات السياسية والتاريخية والاستراتيجية الدولية. تألقهه في برنامج ‘‘ تحت الخرائط ‘‘ الذي بتثه قناة ‘‘ أرتي ‘‘ على امتداد 26 سنة ، دفع رئيسة القناة ‘‘فيرونيك كايلا‘‘ إلى نعيه بطريقة تليق بمقامه الإعلامي الكبير حيث حيت ‘‘ عفته، وعشقه وتفانيه في نشر وتبسيط فهم أعقد المواضيع العالمية ‘‘.
كان دائم القلق في تفادي الانحسار في تحليل آني أو نظري للعالم، ما دفعه إلى الترحال الدائم عبر مختلف القارات الدول، من أجل إدماج تعقيد العلاقات الدولية في تحاليله، ومن ثم تبسيطها وتوجيهها أولا وقبل كل شيء لجمهور الشباب والناشئة . هو ابن المسكتشف بول ايميل فيكتور والصحفية ايليان فيكتور، وكان له اهتمام خاص بالقارة الآسيوية في بداية عمله كمتخصص في العلاقات الدولية والإثنية : بدءا بالعاصمة الصينية بكين حيث اشتغلت والدته في الوزارة، إلى النيبال مرورا بباكستان . غذى والده في شخصيته حب الترحال والسفر وأحيى في نفسه دروس الاستكشاف . في تصريح لليبراسيون الفرنسية قال جون كريستوف ذات مرة ‘‘ لقد سقطت في هوى الخرائط في سن مبكرة، لقد كان البيت حافلا بها ‘‘ . هذا المتفائل الأبدي والمرتبط بالقضايا الإنسانية والبيئية، كان يحذوه الأمل دائما في غد أفضل، وكان نموذجا لكل عشاق الأسفار والبحث عن الجديد .
كان لجون كريستوف فيكتور حلما لم يكتمل. فقد كان ينوي نشر ثقافة المعرفة السياسية والإثنية والاقتصادية في المدارس الابتدائية الفرنسية، ولم لا الأوروبية أيضا والعالمية. كان الهدف هو تحرير الصغار واليافعين من دروس التاريخ والجغرافيا من صيغتها البيداغوجية المتقادمة، القائمة على التحرير المسطح والحفظ والاسترجاع، وتعويضها بطرق أكثر واقعية وتفاعلا من تعقيدات القضايا الكبرى التي توجه العالم اليوم، وستواجهه غدا أيضا . وبالفعل شرع جون كريستوف فيكتور في توقيع عدد من الاتفاقيات مع الأكاديميات الجهوية الفرنسية، لإحلال تصوره في الشرح والتبسيط عبر الخرائط داخل قاعات التحصيل الدراسي في المؤسسات التعليمية الابتدائية والثانوية. غير أن القدر كانت له الكلمة الفصل، في تعطيل هذا المشروع الذي تحاول زوجته وأبنائه إحيائه مع مطلع العام الجديد .
قدرات جون كريستوف وعطاءاته الإعلامية والمعرفية لم تكن ممكنة لولا تبني التلفزيون الفرنسي للمعرفة كأساس للتواصل مع المواطن. القنوات العمومية الفرنسية فتحت المجال للمتخصص في الجيوبوليتيك لأنها تعي جيدا أن دورها الأول هو التوعية والتثقيف. وهو العرفان الذي رده جون كريستوف فيكتور على أكمل وجه، متفانيا في بلورة تصوره لبرنامج ‘‘ تحت الخرائط ‘‘ الذي تطرق على امتداد عقدين ونصف، لكل القضايا السياسية والاستراتيجية العالمية، بدءا من حرب الخليج الأولى وانتهاء بالأزمة الاقتصادية العالمية، مرورا بكل الأحداث الكبرى المعاصرة، والتاريخية كالحرب العالمية الأولى والثانية، والخميس الأسود، ومشاكل التبت والصين، والجزائر الفرنسية، ومشكل البترول، وهيمنة القوى الاقتصادية الكبرى على العالم، والصراع العربي الإسرائيلي، وأزمة البلقان، والربيع العربي وتداعياته، البصمة البيئية، وقضايا التحرر، والمرأة وإفريقيا، والماء والعطش، والسباق نحو التسلح …
برحيله يفقد ‘‘ التلفزيون العالم ‘‘ واحدا من وجوهه الكبيرة. ينضاف جون كريستوف فيكتور إلى قائمة طويلة من معدي ومقدمي البرامج التنويرية الذين رحلوا عن التلفزيون لأسباب مختلفة ك‘‘بيرنار بيفو‘‘ و‘‘ جوك ايف كوستو ‘‘ و ‘‘ هارون تازييف ‘‘ وغيرهم .