شكلت السنة التي نودعها محطة بارزة على درب الرقي بالعلاقات المغربية الصينية، إذ شهدت زيارة دولة للملك محمد السادس إلى جمهورية الصين الشعبية ووقع خلالها جلالته مع الرئيس شي جين بينغ على الإعلان المشترك المتعلق بإقامة شراكة استراتيجية بين البلدين.
وقد فتحت زيارة الملك للصين بالفعل، آفاقا هامة ومجالات جديدة بالنسبة لمستقبل العلاقات بين البلدين والشعبين الصديقين، والتي تميزت على الدوام بتطور مطرد وبخصوصية كونها لم تحد، طوال حوالي ثلاثة عقود، عن الاستجابة المثلى للحاجيات الخاصة للبلدين على حد سواء.
ومن خصوصيات هذه العلاقات أيضا، كونها لم تشبها شائبة، منذ إقامتها، وتطورها على أسس عقلانية، مما أهلها هذا العام لتحقيق طفرة نوعية ترجمت طموح البلدين الصديقين في إقامة شراكة استراتيجية قوية بينهما.
والضامن القوي لمتانة هذه الطفرة هو أن الزيارة الملكية شكلت بداية فعلية لها وللمرحلة المتطورة من علاقات البلدين الصديقين.
ومن العلامات الدالة على هذه الانطلاقة القوية إصدار صاحب الجلالة، خلال مقامه ببكين تعليماته السامية لإلغاء التأشيرة لفائدة المواطنين الصينيين، والذي دخل حيز التنفيذ منذ فاتح يونيو الماضي.
وجاء هذا القرار لتأكيد رؤية صاحب الجلالة ورغبته في تعميق وتنويع العلاقات المغربية الصينية، وتعزيز الثقة المتبادلة ولترجمة إرادة المملكة في الانفتاح وتعزيز المبادلات الإنسانية والثقافية والاقتصادية والسياسية بين البلدين الصديقين.
كما أن المباحثات التي أجراها الملك محمد السادس مع الرئيس شي جين بينغ طبعتها "أجواء الصداقة والالتزام والصدق"، على حد تعبير وزير الشؤون الخارجية والتعاون صلاح الدين مزوار، مما أكد عزم قائدي البلدين الدفع قدما بالشراكة الاستراتيجية بين الرباط وبكين.
ولم تأت هذه الطفرة النوعية في العلاقات من فراغ، فقد جاءت ضمن مسار التطور الذي عرفته، خلال العشرية الأخيرة، والذي يندرج بدوره في إطار الرؤية الملكية لتنويع شركاء المغرب وتعزيز الروابط مع القوى الصاعدة، مما دفع به إلى العمل على إدراج علاقاته مع الصين في أفق شراكة استراتيجية.
ولا تعني هذه الطفرة تخلي المغرب عن علاقاته الاستراتيجية مع حلفائه التقليديين بل سعيا منه لتنويع شراكاته، سواء على المستوى السياسي أو الاستراتيجي أو الاقتصادي، مع حرصه على الوفاء بالتزاماته تجاه شركائه، "الذين لا ينبغي أن يروا في ذلك أي مس بمصالحهم"، كما أكد ذلك جلالة الملك.
وقد حرص المغرب دوما على أن تقوم شراكته مع الصين على أساس حوار سياسي منتظم، يهم مختلف المبادرات الثنائية على المستوى الإقليمي والمتعدد والدولي، حوار يمكن من إقامة تنسيق جيد لتحرك البلدين ولمواقفهما في المحافل والمنتديات الدولية، كما تعمل المملكة على أن تقوم هذه الشراكة على دعامة اقتصادية.
كما يدل إبرام هذه الشراكة على الاهتمام الذي توليه القوى العظمى للمغرب، لكونه أصبح بفضل الإصلاحات التي باشرها، منذ اعتلاء الملك العرش، في كل المجالات، مثار اهتمام مختلف الشركاء.
وعلى المستوى السياسي، ما فتئ المسؤولون الصينيون يشددون على أن تطابق عناصر السياسة الخارجية لكل من البلدين، في ما يتعلق بالاعتدال وتغليب التسوية السلمية للخلافات، يسمح للبلدين بتنسيق جهودهما، من أجل مزيد من المساواة في العلاقات الدولية والسلام والاستقرار والدفاع عن مصالح البلدان النامية، في ظل النظام العالمي الجديد المتسم بالتجاذبات القوية.
ويطمح المغرب في أن تشكل شراكته الاستراتيجية مع الصين إطارا جديدا للتعاون الثنائي في الميادين المرتبطة بالاستثمار والتنمية والأمن، وتعميق التشاور السياسي وتعزيز العلاقات الاقتصادية وتقوية التعاون في الميادين الثقافية والتقنية والعلمية.
كما تصبو المملكة، عبر هذه الشراكة، إلى أن تكون علاقاتها مع الصين أساسا للتأثير الإيجابي في التنمية الإقليمية والجهوية، واستثمار موقعها كرافد لهذا الطموح وهذا البعد الاستراتيجي المشتركين.
وفي سياق تعزيز هذه الثقة وهذه التطلعات، وقع البلدان، تحت رئاسة الملك والرئيس الصيني، على عدد من اتفاقيات الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
وهمت هذه الاتفاقيات على الخصوص، مجالات الصناعة والاستثمار والمالية والماء والسياحة والطاقة النظيفة والتكنولوجيا، ومواكبة المقاولات الإفريقية وفتح آفاق جديدة لاستكشاف فرص استثمارية مغربية صينية، وتطوير مناطق لوجستيكية جاهزة بإفريقيا.
كما شملت إحداث صندوق للاستثمار صيني -مغربي بقيمة مليار دولار يستهدف قطاعات صناعة الطيران والمالية والمركبات الصناعية والبنية التحتية، وإطلاق شراكة لتدبير الصناديق، فضلا عن تطوير مركز صناعي ولوجستيكي من أجل تصنيع قطع غيار الصناعات السككية والخاصة بالسيارات والطيران بإفريقيا.
ومن جهة أخرى، يولي الجانبان أهمية كبيرة لمسألة الوحدة الترابية للدول واتفقا، في إطار المشاورات السياسية الدورية، على تبادل المعلومات حول آخر التطورات المتعلقة بقضاياهما الوطنية الجوهرية، وعلى دعم بعضهما البعض، معربين عن تفهم انشغالاتهما، بهذا الخصوص.
ولم تفتأ الصين تؤكد حرصها وتشبثها الدائم ودفاعها المستميت على مبدأ السيادة الوطنية والوحدة الترابية للدول كضامن للأمن والاستقرار وكحق أساسي في التنمية والعيش الكريم.
وقد عبرت المملكة المغربية عن دعمها لمبادرة طريق الحرير وطريق الحرير البحري في القرن الـ21، والتي كان الرئيس الصيني قد أطلقها قبل ثلاث سنوات. كما أعربت عن أملها في أن تحيي المبادرة قيم طريق الحرير القديم، المتمثلة في السلام والتعاون والانفتاح والتسامح والاستفادة المتبادلة، وتمكين كل البلدان المعنية من تعزيز تبادل السلع والتقنيات والأفراد والأفكار.