ولّدت صحيفة لوموند الفرنسية رجة دبلوماسية وإعلامية جديدة يوم 8 ديسمبر، حيث أوردت استنادا إلى أرشيف ادوارد سنودن المستشار السابق في وكالة الأمن القومي الأميركية، أن قادة ونخبا سياسية واقتصادية في إفريقيا إضافة إلى حركات تمرد فيها ومنظمات دولية كانت مستهدفة على نطاق واسع وبشكل مركز أكثر من السابق من طرف أجهزة المخابرات البريطانية والأميركية.
وأوضحت الصحيفة أنها اطلعت بالتعاون مع موقع "ذي انترسبت"، على ملايين الوثائق التي نشرها ادوارد سنودن، وأن هذه الوثائق تثبت أن "إفريقيا وأجهزة الاتصال فيها" وضعتها واشنطن ولندن "تحت مراقبة مكثفة" مثل مناطق أخرى من العالم.
وتثبت هذه الوثائق التي يستمر الاطلاع عليها وتسريبها، أنه تم وضع 20 دولة إفريقية، على الأقل بين 2008 و2011، ضمن دائرة الأقمار الصناعية للأجهزة السرية البريطانية "جي سي اتش كيو".
وفي هذه الدول كانت الأهداف المراقبة متنوعة من رؤساء دول وحكومات إلى وزراء ومستشارين وإعلاميين ومعارضين وعسكريين وقادة حركات تمرد وتنظيمات مسلحة ورجال أعمال ومنظمات غير حكومية بعضها محسوب على الغرب وآخر يصنف علنا في خانة الخصوم.
وأضافت الصحيفة "مع أن الأجهزة السرية البريطانية تفضل الاعتراض الكثيف لاتصالات دول إفريقيا الناطقة بالإنكليزية، فإنها لم تتخلف عن أن تشمل مراقبتها مناطق النفوذ الفرنسي".
وقد تمت مراقبة وزارة الخارجية الفرنسية وإدارة التعاون الدولي والتنمية وسفارات فرنسا في إفريقيا ودبلوماسيين وكذلك منظمات غير حكومية بينها منظمة أطباء بلا حدود وشركات كبرى مثل توتال وتاليس.
وأكدت وثائق سنودن الطابع الكثيف والمنهجي لهذه المراقبة الاستخباراتية. كما أثبتت أنها تمتد إلى العالم بأسره، بحسب الصحيفة الفرنسية.
وتابعت لوموند أن "معظم شركات الاتصالات" العاملة في إفريقيا "يتم التجسس عليها على غرار الجنوب إفريقية "ام تي ان" والسعودية "سعودي تيليكومز" و"فرانس تيليكوم و"اورنج".
وكان سنودن اللاجئ حاليا في روسيا، قد شرع منذ سنة 2013 في كشف الحجم العالمي الواسع لمراقبة الاتصالات والإنترنت من طرف أجهزة الإستخبارات والأمن في الولايات المتحدة.
ووجهت حكومة واشنطن إلى سنودن تهمة التجسس وهو ما يعرض المستشار السابق في وكالة الأمن القومي لعقوبة السجن 30 عاما في الولايات المتحدة لكشفه معطيات سرية.
التجسس والتخريب
بعض المحللين اعتبروا أن الأمر الأكثر خطورة في الوثائق التي تم الكشف عنها، تتعلق بتفعيل الاستخبارات الأميركية والبريطانية لنظام تجسس جديد على الطائرات المدنية، كانت شركة الخطوط الجوية الفرنسية أحد محاوره خاصة لروابطها المتعددة عبر المطارات الأفريقية والعربية.
وتظهر الوثائق نظام التجسس على الطائرات المدنية، الذي بدأت به "وكالة الأمن القومي" الأميركية والجهاز البريطاني المماثل لها عام 2005.
ويتبيّن من تلك الوثائق أن آلية التجسس المذكورة تعتمد على مراقبة كل لوائح المسافرين والهواتف الخلوية في الجو عبر خدمة "واي فاي".
وقد جاء في مذكرة داخلية للجهاز الأميركي، في العام 2009، أن "السماء يمكن أن تصبح ملكا لوكالة الأمن القومي".
وظهر أن أحد أبرز أهداف نظام التجسس الجوي هو "إير فرانس"، التي ذكر اسمها في مذكرات وكالة الأمن القومي من ضمن مشروع "تعقّب الطائرات المدنية في العالم أجمع"، والتي تقول "لوموند" إن تكرار ورودها "ليس عبثيا"، بل يظهر أنها مستهدفة شأنها شأن الخطوط الجوية المكسيكية وغيرها.
وأوضحت "لوموند" أن الوثائق نفسها تظهر النية بعدم اقتصار المراقبة على أشخاص محددين قد يمكن وجود علاقة لهم بالإرهاب.
ورأت أن الأمر شكل "لغزا"، حيث تتعدد في الوثائق مجموعة أهداف محتملة: ما الذي يجمع بين رئيس باكستان وتاجر أسلحة أو سيجار ودخان وإرهابي، أو حتى عضو في شبكة منع الانتشار النووي التابعة لهيئات دولية؟، جميعهم يستخدمون هواتفهم وأجهزتهم الإلكترونية على متن الطائرة".
وقالت "لوموند" إن التجسّس سياسي وإقتصادي، وليس لمكافحة الإرهاب، خصوصا أنه طاول مئات آلاف الأشخاص.
التجسس على الأصدقاء
وقالت الصحيفة الفرنسية إنه على الرغم من "الحلف المقدس" الذي يجمع جهازي الاستخبارات الأميركي والبريطاني، فإن ذلك لم يمنع جهاز الأمن القومي الأميركي والبريطاني من وضع اسرائيل تحت مجهر التجسس، والذي شمل أيضا مسؤولين في السلطة الفلسطينية وفي الأردن.
وقد بيّنت الوثائق أن البريطانيين "تجسّسوا على دبلوماسيين إسرائيليين في الداخل والخارج"، وراقبوا أيضا "مؤسسات خاصة في قطاع الدفاع وأجهزة في الدولة معنية بالتعاون الدولي ومراكز جامعية معروفة بمستواها العلمي العالي.
وشرحت الصحيفة أن كلا من صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية و"دير شبيغل" الألمانية، كانتا قد كشفتا سابقا عن عمليات تجسس بريطانية وأميركية متعددة.
وراقبت بريطانيا أيضا، في عامي 2008 و2009، شخصيات في السلطة الفلسطينية، واتصالات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وبعض الوفود الفلسطينية في العالم، خصوصا في فرنسا وبلجيكا والبرتغال وباكستان وجنوب أفريقيا.
ورد جهاز الاستخبارات البريطاني على ما ورد في الصحيفة الفرنسية بالقول إن "عملنا يجري بالتوافق مع إطار قضائي وسياسي صارم، يضمن أن تكون أنشطتنا مسموحة وضرورية ومتناسبة"
صراع الأجهزة لا يمنع تعاونها
وقالت لوموند أيضا إن وكالة الأمن القومي الأميركية أن أس أي تجسست على دبلوماسيين فرنسيين في واشنطن وفي الأمم المتحدة.
وحصلت الصحيفة على وثائق تثبت استخدام برنامج مراقبة متطور يعرف باسم "جيني"، من قبل وكالة أن أس أي.
وتضيف الصحيفة أن الولايات المتحدة خصصت في 2011 ميزانية قيمتها 652 مليون دولار لتوفير برامج التجسس وشملت العملية مئات الملايين من الأجهزة في ذلك العام وحده.
ويشير محللون إلى أن أجهزة المخابرات وخاصة في المعسكر الغربي تتعاون فيما بينها في ظل ظروف معينة، ولكنها خلال ظروف مختلفة تتصارع أو تتجسس على بعضها، والأمر لا ينحصر على الأجهزة فقط بل يشمل حكوماتها أيضا. هناك أحداث تاريخية تؤكد مثل هذه الممارسات ولا يمكن إنكارها.
في شهر مايو/ايار 1954 وعندما أصبح الفرنسيون على وشك تكبد الهزيمة في معركة "ديان بيان فو" بفيتنام على يد قوات هوشي منه مؤسس الدولة الفيتنامية الشمالية، تخلت واشنطن عن وعودها بدعم القوات الفرنسية بقواتها الجوية في اللحظة الحرجة.
ويشير مؤرخون في أوروبا كذلك إلى أن المخابرات الفرنسية وفي مناسبات عديدة قامت بدور فعال في الكشف لقادة دول مختلفة وخاصة في أفريقيا عن مؤامرات للانقلاب عليهم من تدبير المخابرات الأميركية والبريطانية وغيرهما.
ومن هذا المنطلق يجب النظر إلى ما قد يعتبره البعض تضاربا في تعامل الأجهزة الغربية.
و قبل زهاء سنتين كانت نفس الصحيفة الفرنسية أي "لوموند" قد كشفت عن وجود علاقات سرية بين الإدارة العامة للأمن الخارجي التابعة للاستخبارات الفرنسية وأكبر شركة للاتصالات في فرنسا.
باريس تتستر على اختراق الموساد
وخلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني وفي نطاق لعبة صراع أجهزة المخابرات تم الكشف عن تستر باريس على اختراق جهاز المخابرات الإسرائيلي الخارجي (الموساد) لأجهزتها.
وحين تفجرت فضيحة التنصت التي أطاحت بمدير جهاز الاستخبارات الداخلية الفرنسية، برنار سكوارسيني في عهد نيكولا ساركوزي، لم يكن أحد يتصور أن التحقيق سيفضي إلى كشف "حرب أجهزة" جرى التستر عليها منذ العام 2011.
واتهم مدير الاستخبارات الداخلية باستغلال منصبه لممارسة التجسس بنحو غير قانوني لحساب ساركوزي، وذلك في فترة ما بعد مغادرة الأخير للحكم عام 2012.
وقد أدى الأمر الى إيداع سكوارسيني في الحبس الاحتياطي في سبتمبر/ايلول 2016، وإلى متابعته قضائيا بتهم "استغلال النفوذ" و"إفشاء أسرار الدولة". لكن التحقيق القضائي سرعان ما سلك منحى غير متوقع أدى إلى تفجير "فضيحة داخل الفضيحة" تتعلق باختراق الموساد للاستخبارات الداخلية الفرنسية وتستر السلطات الفرنسية على ذلك منذ أربعة أعوام.
واللافت أن القضية جرى التستر عليها منذ عام 2011، خلافا للأعراف الدبلوماسية التي تقتضي عند انكشاف مثل هذه الفضائح المتعلقة بالتجسس، استدعاء سفير الدولة المعنية للاحتجاج وطرد الدبلوماسيين المتورطين في العملية.
الطابور الخامس
ما هي العلاقة بين المخابرات الأميركية وبين منظمات إرهابية من بينها القاعدة؟. السؤال يبدو نظريا أو افتراضيا، لكن يبدو أيضا أن هناك خيطا رفيعا غير مرئي يمتد في الظلام بين الجانبين وهو ما كشفت عنه كتب منشورة لرجال المخابرات الأميركية يعترفون فيها باختراقها لبعض هذه التنظيمات ودفعها من داخلها إلي تنفيذ عمليات تشعل صراعات وتسهم في عمليات زعزعة استقرار الدول وتفتيتها، المخابرات كذلك برعت في تشكيل ما يسمى بتنظيمات الطابور الخامس.
وأحدث هذه الكتب عنوانه مبادلة الأسرار: الجواسيس والمخابرات في عصر الإرهاب لمؤلفه مارك هوبند المراسل المختص بشؤون الأمن السابق لصحيفة الفاينانشيل تايمز البريطانية والذي حصل على معلومات من ضباط في المخابرات خلال سفرياته من روما إلي كابول ومن الخرطوم إلي غوانتانامو.
الخلايا النائمة رغم كونها مصطلحا جديدا دخل عالم الحروب السرية لكنها في الحقيقة ترتبط بمفهوم آخر أشمل منه وهو الطابور الخامس أو طابور العملاء. وهذه الخلايا أشد فتكا من القوات العسكرية وهي تخلف عنها في أن الأخيرة تمثل قوات منظورة في حين أن الخلايا هي قوات سرية متخفية بملابس مدنية.
وغالبا ما تكون الخلية وحدة تنظيمية سرية صغيرة تضم عناصر لا تزيد عن عشرة أشخاص كي يصعب كشفها وتؤمن الحرية الكافية لتحركها. وتتكون عناصر الخلية من مواطني الدولة الزارعة لها من مواطنيها المتجنسين بجنسيات الدولة المزروعة فيها الخلايا أو من مواطني الدولة الأخيرة ممن يرتبط بالدولة المجندة لهم لنوازع دينية أو مذهبية أو عنصرية أو المواطنين الأصليين من الذين يجندون تحت إغراءات مالية أو يوعدون بامتيازات ومناصب لاحقة.
فالطابور الخامس يعمل خلف خطوط العدو لأداء مهام بعينها لصالح الطرف الآخر، وترسخ هذا المعنى أثناء الحرب الباردة.
كذبة كبيرة
معهد "غلوبال ريسيرش" الكندي نشر دراسة للباحث ميشيل شوسودوفسكي قال فيه "الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد الدولة الإسلامية مجرد كذبة كبرى. وما ملاحقة لإرهابيين وشن حرب وقائية في جميع أنحاء العالم لحماية الوطن الأميركي، سوى ذريعة لتبرير أجندة عسكرية.
وتناول 26 معلومة تفند هذه الكذبة الكبرى التي صوَرتها وسائل الإعلام باعتبارها التزاما إنسانيا، بينما هي ليست في الواقع سوى عملية عسكرية واسعة النطاق ضد العراق وسوريا، أسفرت عن إزهاق أرواح عدد لا يحصى من المدنيين.
الحرب العالمية على الإرهاب
وترتدي الحرب العالمية على الإرهاب قناع صراع الحضارات، باعتبارها حربا بين متنافسين على القيم والأديان، بينما هي في الواقع حرب احتلال صريحة تسترشد بالأهداف الاستراتيجية والاقتصادية.
وساهمت حملة مكافحة الإرهاب ضد تنظيم الدولة السلامية في شيطنة المسلمين الذين ينظر إليهم الرأي العام الغربي على نحو متزايد باعتبارهم متورطين مع الجهاديين.
أي شخص يجرؤ على التشكيك في صحة الحرب العالمية على الإرهاب سوف يوصم بأنه إرهابي، ويخضع لقوانين مكافحة الإرهاب.
وفي سبيل ذلك، فرضت إدارة أوباما توافقا شيطانيا بدعم من حلفائها واحتضان وسائل الإعلام الغربية لهذا الإجماع ووصفها الدولة الإسلامية كما لو كانت كيانا مستقلا وعدوا خارجيا يهدد العالم الغربي وليس أداة لتدمير الدول.
عمر نجيب