إن الاستثناء المغربي يكمن في هذه النقطة بالذات: فإذا كانت الحركات الإسلامية التي ظهرت منذ السبعينيات في بعض الدول العربية قد اقتسمت جزءاً من الشرعية النضالية والسياسية في تلك البلدان من خلال الدعوة الدينية متمثلة في العودة إلى نهج السلف الصالح وتطبيق الشريعة الإسلامية، وإذا كانت أغلب هذه البلدان عرفت موجات من العنف والعنف المضاد كادت في بعض الحالات تتحول إلى حروب أهلية، فإنها في المغرب وبسبب من إمارة المؤمنين ظلت دائماً تفتقر إلى تلك المشروعية وذلك الدعم الجماهيري مادام أن الدولة في المغرب تقوم على احتكار المشروعية الدينية.
إن فصل الديني عن السياسي الذي يعتبر من ركائز الحداثة السياسية إذا كان له أن يحصل فإنه يقف عند حدود ما تحت المؤسسة الملكية. الأمر الذي حدا بكثير من المحللين إلى اعتبار الملكية صمام أمان ضد قوى المحافظة والتطرف، (يمنع قانون الأحزاب تأسيس أحزاب على أساس ديني أو عرقي وبالتالي فلا أحد من حقه توظيف الدين في السياسة سوى أمير المؤمنين).
لكن الأحداث والتطورات التي تجري أمام أعيننا تدعو إلى الحذر من المغالاة في تمجيد الاستثناء. فلقد أعلن ظهور جماعة «السلفية الجهادية» و «الهجرة والتكفير» والاعتداءات الإرهابية التي كانت الدار البيضاء مسرحاً لها سنة 2003، والتفجيرات الأخيرة التي شهدها مقهى بمراكش، بالإضافة إلى التفكيك المستمر للعديد من الخلايا الإرهابية… على ضرورة إعادة الاعتبار للتاريخ والجغرافيا والثقافة والمعلوماتية وسياقات المحيط الدولي والإقليمي كعناصر أساسية في فهم سيرورة هذا العنف والتطرف الذي يتغذى من عناصر متعددة، بعضها سياسي وسوسيواقتصادي وسيكولوجي وثقافي.
يؤكد التاريخ القريب أن العلاقات بين الدولة والحركات الإسلامية عرفت تأرجحاً بين التوتر والمنازعة والمصالحة والاستيعاب، ففي بعض الأوقات سمحت السلطة بترويج الفكر (السلفي) عبر وسائل متعددة تربوية وثقافية وإعلامية… كما تم توظيف الحركات الإسلامية في مواجهة الأحزاب الديمقراطية، وسمحت لبعض الحركات الإسلامية المعتدلة بالانخراط في الحقل السياسي الرسمي، لكن في أوقات أخرى كانت لغة المواجهة هي الغالبة كما حدث ذلك بعد أحداث مايو/ أيار 2003 بالدار البيضاء، حيث أدى انخراط البلاد في الجبهة العالمية لمحاربة الإرهاب إلى تعزيز المقاربة الأمنية التي كان من نتائجها إقرار قانون لمكافحة الإرهاب، ارتأى فيه المراقبون تراجعاً عن المكتسبات التي تحققت في محال صيانة الحريات العامة وحقوق الإنسان. وشهدت الفترة الأخيرة مرونة السلفية الجهادية بعد تقديم مراجعات فكرية والتخلي عن العنف وتكفير المجتمع تمثلت في إطلاق بعض رموزها (الشيخ محمد الفيزازي).
إن العنف أصبح حاضراً في النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع المغربي، وأضحى يمس العلاقات بين الأشخاص، كما يمس علاقاتهم بالمؤسسات والأجهزة، السياسية أو الإعلامية أو التربوية على السواء. وهو عنف يومي يمارس بإيعاز من استمرار ثقافة تقليدية تغلب القوة والغلبة والكراهية والتمييز وعدم احترام الآخر.
الفقر والفساد والتمييز حواضن الثورة
هذه الثقافة حاضرة كذلك في المشهد السياسي وتحضر بأشكال ومستويات مختلفة لدى بعض العلمانيين الاستئصاليين كما تحضر لدى الحركات الإسلامية بمختلف أطيافها، فإذا كانت «جماعة العدل والإحسان» المحظورة و «حزب العدالة والتنمية» المشارك في البرلمان قد حسما في أدبياتهما مواقفهما الرافضة للعنف في تدبير الصراعات السياسية والاختلافات المذهبية، فإن العديد من المراقبين يشككون في هذا الرفض مادام أنهم يشتركون مع التنظيمات الإرهابية في نفس الأسس الفكرية والايديولوجية (الدعوة إلى تطبيق الشريعة، محاربة العلمانية، محاربة الغزو الاستعماري التغريبي، التمييز ضد المرأة...). لذلك فإنهما يجسدان نوعين من العنف: واقعي مادي تمارسه التنظيمات الإرهابية، ورمزي تمارسه التنظيمات الإسلامية التي تنادي الاعتدال. والعنف الرمزي في كثير من الأحيان يمهد الطريق على الصعيد الفكري والنفسي نحو العنف المادي.
إن الإرهاب الذي يضرب المغرب كغيره من البلدان يثبت أنه ينتعش أينما وجد الأرضية السوسيولوجية المناسبة، فالفقر والبطالة والفساد السياسي والريع الاقتصادي وفشل التنمية وانتشار الأمية والفكر الغيبي وكراهية الآخر والتمييز تجاه النساء كلها عوامل تدفع إلى تبني ثقافة العنف. فانتحاريو الدار البيضاء ينحدرون من أحياء الصفيح الهامشية التي تفتقر إلى أدنى مقومات العيش الكريم من مرافق صحية واجتماعية، ويمارسون أنشطة اقتصادية هامشية وغير مهيكلة تدر دخولاً هزيلةً، وذوو مستويات تعليمية متدنية، ويقطنون في دور سكنية لا تلبي الحاجات الوظيفية للسكن، الأمر الذي ينعكس في تبني مواقف عنف وتطرف تجاه الذات والمجتمع.
إن التحولات المتسارعة التي يعرفها المجتمع المغربي لها دور لا يستهان به في نشر وبث العنف، فقد ولدت الحداثة المعرفية والتكنولوجية عنفها كذلك، وأصبح الانترنت والبث الفضائي مثلاً «خزان عنف أو مدرسة عنف، ترتوي منه، وتسترشد به كل جماعات العنف، وكل من يتقصد استعماله وصناعة أدواته». لقد أضحت التقنية الحديثة من وسائل ترويج وتشريب «السياج الدوغمائي» في عقول الأفراد والجماعات على حد تعبير محمد أركون. وإذا كان الحديث عن الاستقرار يواجه بتنامي العنف في المجتمع المغربي فإن الحديث عن الحرية والديمقراطية يواجه بتنامي الحركات الاحتجاجية والمطالبة بالتغيير من كل صوب وحدب.
زيادة دور المجتمع المدني
إذا كان وزن النقابات العمالية والأحزاب الديمقراطية قد تراجع منذ أواخر الألفية فإنه بالمقابل ازدادت أداور المجتمع المدني من منظمات شبابية ونسائية ونشطاء حقوق الإنسان وجمعيات تنموية ومنظمات غير حكومية. كما أن تطور طبقات اجتماعية حضرية جديدة كالطبقة المتوسطة والشرائح الواسعة من الشباب المتعلم من النساء والرجال خلق انتظارات حداثية يصعب التحكم فيها بالوسائل التقليدية للإكراه والشرعنة، كل ذلك أدى إلى جعل الديمقراطية المغربية على المحك. في هذا السياق ظهرت حركات احتجاجية جديدة خارج التأطير الايديولوجي والسياسي للدولة والأحزاب السياسية التقليدية، فلا هي تؤمن بالشرعية التاريخية ومراجعها الفكرية ولا هي تؤمن بمصداقية الشرعية الوطنية والديمقراطية كما جسدتها الأحزاب السياسية المندمجة في الحقل السياسي الرسمي. إنها حركة الشباب الفبرايري (نسبة إلى حركة 20 فبراير) والشرائح الحضرية التي تريد تغييراً حقيقياً، فما هي إلا أيام على قيام حركة التغيير الديمقراطي في تونس ومصر حتى التحق بركبها الشباب المغربي من خلال استثمار ما تتيحه الثورة المعلوماتية والتقنيات الجديدة للتواصل وإبداع أشكال احتجاجية جديدة.
لقد وجدت هذه الحركة تجاوباً كبيراً مع مطالبها السلمية على الصعيد الشعبي كما على الصعيد الرسمي، حيث كانت وراء تعديل الدستور وإعلان انتخابات برلمانية سابقة لأوانها، وكشفت بالقدر نفسه عن شيخوخة وترهل النخب السياسية التقليدية وابتعادها عن القضايا الحيوية للمجتمع المغربي، وأثبتت أن عزوف الشباب عن المشاركة في الحياة السياسية من ترشيح وانتخاب وعمل داخل الأحزاب ليس نتاج الأمية واللامبالاة السياسية وإنما هو تعبير عن مواقف واعية بعدم جدوى تلك المشاركة مادامت غير قادرة على إحداث التغييرات اللازمة في بنية النظام السياسي. وفي الوقت نفسه أبانت عن تراجع تأثير الحركات الإسلامية الراديكالية في صياغتها وتوجيهها نظرياً على الأقل، (رغم محاولات ركوبها وتوظيفها من طرف جماعة العدل والإحسان المحظورة) وعن انحسار تأثير الفكر السلفي الجهادي والتنظيمات التي تروج للفكر المتطرف وعدم تمكنها من التغلغل لدى الشرائح الشبابية المتعلمة رغم قدرتها الكبيرة على التدمير وإثارة الفزع في النفوس.
العقلانية التعاقدية تواجه المشروعية الدينية
خلاصة القول إنه إذا كانت المشروعية الدينية قد وفرت لحد الآن غطاءً ايديولوجياً سميكاً للحيلولة دون انحدار البلاد إلى دوامة عنف الحركات الإسلامية المتطرفة والعنف المضاد واستطاعت احتواء القوى الإسلامية المناهضة للعنف محققة استثناء في المنطقة، فإن الاستمرار في تبني السياسات الاقتصادية والاجتماعية نفسها سيؤدي إلى مزيد من الفقر والبطالة والحرمان، وسيزيد من تعميق الفوارق الاجتماعية، الأمر الذي ستكون له آثار غير مرضية على المديين المتوسط والبعيد على الاستقرار والحرية. وبالمقابل فإن المشروعية التقليدية ستبقى حاجزاً أمام تعميق المسار الديمقراطي - والذي كانت حركة 20 فبراير من ردود الفعل المباشرة له - الذي لا يعترف إلا بالشرعية العقلانية التعاقدية، والتي تكون الدولة المدنية هي شكلها القانوني والدستوري. وسيصبح الاستثناء أكثر جدارة إذا تم اعتماد مقاربة شمولية للعنف تقوم بتجفيف منابعه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وفي الوقت نفسه تعمق الطابع المدني للدولة وتعزز الاختيار الديمقراطي