يجد الكثيرون صعوبة قصوى في اتخاذ الموقف مما يحدث حولهم، سواء تعلق الأمر بالأوضاع داخل البلد أو بما يحدث في الساحة العالمية، إذ يعون أن كل موقف يتخذ ينطوي على مخاطرة (Risque) ويواجه احتمال التفنيد أو التجاوز. فالأوضاع في العالم صار يلفها تعقيد غير مسبوق بعد نهاية الصراع بين معسكرين على أساس إيديولوجي، وأيضا بعد إعادة انتشار الثروة عالميا وصعود قوى عالمية جديدة دون انحطاط القوى القديمة، وبروز نزاعات جديدة تقوم على أساس حسابات جيوبولتيكية واستراتيجية جديدة نسبيا ومتكيفة مع العالم كما هو الآن بقواها وتحالفاتها وتصدعاتها وبوتيرة متسارعة.
هذا التعقيد يتطلب التخلي عن قوالب التفكير المتقادمة كي يصبح ممكنا توسيع أفق النظر وامتلاك القدرة على استيعاب ومعالجة المعلومات المتاحة في الفضاء السبرنطيقي (cyber-espace) وتقوية المناعة ضد المفبرك والموجه منها وتجديد مناهج وأدوات التحليل لفهم التغيرات، وإلا تم السقوط في فخاخ السذاجة والاستهلاك المنفعل لمنتجات تتكفل بترويجها وسائل الإعلام وشبكة الأنترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي وتتم تعبئة من سماهم باسكال بونيفاص بـ "المثقفين المزيفين" (les intellectuels faussaires) لإضفاء طابع المعقولية عليها كذبا وبهتانا. وهذا ما يمثل تحديا كبيرا يصعب رفعه باستمرار وبنفس الاقتدار حتى بالنسبة للمنظمات والدول.
ومن المؤكد أن القوى الكبرى المتنافسة هي من تتوفر على ما يكفي من الموارد والقدرات على الإمساك بهذا التعقيد وتدبير ما يترتب عليه عالميا وعلى مستوى مختلف بلدان العالم، بعدما صارت سيادة الدول الوطنية بها مصابة بالهشاشة، نتيجة مختلف التغيرات العابرة للحدود، وقابلة للاختراق بواسطة التكنولوجيا المتطورة والاقتصاد المُعَوْلم وأيضا بواسطة آليات القانون الدولي والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية العالمية وإيديولوجيا حقوق الإنسان، التي تفرغ هذه الحقوق من عمقها وتسخرها لممارسة الضغط، التي دعمت جميعها نزعة تدخلية تمكن من الاستقواء على الصغير والضعيف، كما يتبين ذلك من خلال تركيز المحكمة الجنائية الدولية على إفريقيا والمغالاة في الضغط على الدول التي تبدي استعدادا للتعامل مع آليات الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية العالمية، كالمغرب، والتغاضي على الدول التي تحكم إغلاق أبوابها وتضع العراقيل، كالجزائر.
ويمكن القول أن إمساك القوى العظمى بهذا التعقيد، ورغم ما توحي به الأدخنة الحاجبة للرؤيا، ينطوي على جانب يمكن نعثه بالإيجابي دون تحفظ، إذ خدم لحد الآن هدف تجنب وضعيات خطيرة مفتوحة على حروب كبرى عالمية، من قبيل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأبقى حالة من السلم العالمي قائمة مند تأسيس منظمة الأمم المتحدة كبديل لهيئة الأمم الفاشلة، وحصر الاحتكاكات في رقع محدودة، حتى لما كانت تلك القوى في مواجهة غير مباشرة أو مباشرة. ومنذ نهاية الحرب في منطقة الهند الصينية، صار العالم العربي والشرق الأوسط، حيث النزاعات الطائفية والمذهبية والقبلية ومخاطر الحروب الإقليمية، نقطة التماسّ الأساسية بين القوى العظمى نظرا للطابع المتحرك للمنطقة وللأهمية التي تكتسيها، ليس فقط لأنها تختزن احتياطي طاقي استراتيجي وحيوي بالنسبة للاقتصاد العالمي، بل أيضا، وبدرجة كبيرة، لأنها تحبل بمخاطر تهدد أمن جوارها القريب والبعيد نظرا لكونها خزانا للنزاعات ذات الآثار القابلة للتمدد، وبالأخص إلى أوروبا المجاورة والقوقاز وغرب وجنوب شرق آسيا وإفريقيا، ولذلك لم تدخر كل القوى العظمى جهدا ليس فقط للتأثير في مجرى الأحداث والموازين والترتيبات المصالحية بها، بل وأيضا لتجنب آثار أزماتها المتكررة وحروبها المتواصلة على السلم والتعايش الدوليين.
لقد تصرف المحافظون الجدد الأمريكيون بتعصب إيديولوجي وعمى استراتيجي، لا يليقان بالقوة العظمى الأولى في العالم، عندما قرروا اللعب في رقعة الشرق الأوسط لعبة غير محسوبة العواقب، بإيعاز من اللوبي الصهيوني النافذ في الولايات المتحدة، وحاولوا تغيير معطياتها بالقوة في ظرفية اعتبروها مناسبة، بعد ضرب حكم طالبان في أفغانستان انتقاما من العملية الإرهابية الشنيعة للقاعدة في 11 شتنبر 2001، وسايرتهم في عماهم القوى الامبريالية القديمة التي فقدت قدرتها التاريخية على فهم المنطقة والتأثير في مساراتها، وهذا ما أدى إلى أن الفوضى التي أرادوها، حسب تعبيرهم، خلاقة قد انفتحت على سيناريوهات انفلتت من قدرتهم على الإمساك بها، وبالأخص بعد استغلال إيران بانتهازية بينة لتلك الفوضى لممارسة تمدد إقليمي بأفق طائفي وقومي وبالتالي محاولة فرض نفسها كقوة إقليمية غالبة، وهو ما أدى إلى تأجيج التطرف الطائفي وجعل خطر حرب إقليمية مدمرة ماثلا.
وقد عملت الولايات المتحدة بعد تولي أوباما لرئاستها، ومعها حلفاؤها، على تدارك الخطيئة المرتكبة في ظل رئاسة بوش، لكنها لم تستطع التحرر من خطاطة "الفوضى الخلاقة"، التي تبين في الأخير أنها استهدفت نظام الأسد وحزب الله في لبنان والنفوذ الإيراني في العراق والمنطقة والوجود الروسي في سوريا أكثر مما هدفت إلى إنهاء الطغيان وإشاعة الحريات والديمقراطية، وتبين من خلال سير الأحداث والمعطيات الميدانية أن الولايات المتحدة ومعها فرنسا لعبا ورقة طائفية بالعمل على تكوين حلف سني واسع يضم سنيي العراق وسوريا وتركيا وقطر والسعودية وغيرها، فكان تدارك الخطيئة بأسوأ منها، إذ سرعان ما ولد هذا الحلف من رحمه داعش، التي شارك في تقويتها ضباط عراقيون سنيون وبعثيون ومرتزقة عبأتهم الحركات الوهابية والإخوانية في كل مكان بدعم المال والإعلام الخليجيين، فأفلت كل شئ من التخطيط الأصلي، بما فيه مشروع إعادة النظر في الخريطة المترتبة عن اتفاق سايكس-بيكو وإعمال سياسة العزل بخلق ما يشبه البانتوستانات بجنوب إفريقيا على أساس طائفي وعرقي، وهكذا وجدت الولايات المتحدة مضطرة لمحاربة الوحش الداعشي في العراق جنبا إلى جنب مع إيران ومن يدورون في فلكها بعد انهيار الجيش العراقي، لكن دون أن تتخلى عن هدفها الأصلي المتمثل في ضرب الأسد وحزب الله في سوريا ودون أن تتخلى عن كل الوحوش الذين يخدمون هذا الهدف.
ونظرا لإحساسها بالخطورة القصوى للعبة الأمريكية في سوريا، بمعية الترك وقطر والسعودية، فإن روسيا استشعرت الخطر الذي يهددها، ليس فقط كحليف لسوريا، بل كبلد قريب من النار ومهدد في أمنه الوطني والإقليمي، خصوصا وأن أحداث الشرق الأوسط تزامنت مع أزمة روسيا مع أوكرانيا ومع حرب البترول، ولذلك تحركت تحركا انطوى على تهديد كبير بتجاوز الخطوط التي جعلت السلم العالمي يدوم منذ الحرب العالمية الثانية، ولقيت خلال ذلك دعما غير مسبوق من طرف الصين، مما جعل الأحداث تنحوا منحى جديدا في سوريا وغيرها وجعل مختلف القوى تراجع حساباتها، بما فيها الولايات المتحدة وتركيا، خصوصا وأن داعش خرجت من الشرق إلى العالم وصارت مصدر قلق للعالم أكثر من القاعدة. وهو القلق الذي أعطى نفسا قويا للشعبويات واليمين المتطرف في الغرب وصار يمثل تهديدا للمكاسب الديمقراطية في العالم.
لم يكن دخول روسيا على خط ما يحدث في سوريا من باب التحالف مع إيران أو لدعم سلطة الأسد، كما يروج، فبوتين ليس إثنى عشريا أو علويا وتناقضات روسيا وإيران ليست هينة، بل من باب حسابات خاصة جيوسياسية واستراتيجية تهم أولا أمنها الداخلي ومصالحها. ذلك أن عددا كبيرا من مقاتلي داعش وقيادات جيشها من الشيشان والقوقاز، وهذا ما يمثل تهديدا بانتقال داعش إلى روسيا وإلى حدودها وعودة خطر الحرب الشيشانية التي حسمتها موسكو بالقوة العسكرية والقضاء على المتطرفين وحروب أخرى. وروسيا تعتبر الشرق الأوسط ضمن حدودها دائما والتدخل التركي في سوريا والعراق لا يمكن إلا أن يزعجها، خصوصا في ظل سيطرة حزب الإخوان المسلمين بقيادة أردوغان على الدولة التركية وطموحه إلى إحياء الخلافة العثمانية والتأثير في دول القوقاز.
إن ما تشهده سوريا منذ البداية ليس معركة من أجل حقوق الإنسان والديمقراطية تواجه فيها قوى الانعتاق والحرية دكتاتورية الأسد والبعث كما يريد أن يقنع بذلك بعض السذج أو المأجورين والغارقين في وحل البترول والغاز، فالمعارضة السورية المكذوب عليها مسيطر عليها من طرف فلول الإسلاميين المسخرين من طرف دول إقليمية وغيرها، ومن باب الكذب والإصرار المرضي على اعتبار ما عرفه العالم ربيعا، رغم انكشاف الخدعة، وصف من يقتل باسم الطائفة معارضا ومدافعا عن التغيير والحرية، بل إن الأمر يتعلق بلعبة إقليمية لقوى متعددة تلتقي وتختلف أهدافها ويشكل المواطنون العزل حطبا لها.
وتلتقي الولايات المتحدة والدول الأوروبية المنخرطة في الحرب مع تركيا والدولة الصهيونية والسعودية وقطر في المعركة ضد التمدد الإيراني وسعي طهران إلى إقامة نظام إقليمي يمتد ويجعلها قادرة على هدم النظام الخليجي وإخضاعه لولاية الفقيه، والأمريكيون، ومن ورائهم الأوروبيين، لا يقبلون بقيام هذه القوة الإقليمية إلا إذا كانت مندمجة في شبكتهم المصالحية، وأعلنت عن دعمها لدولة الاحتلال الصهيوني، وفي مقابلها قوى أخرى تناهض محاولة الاستفراد بالنفوذ في الشرق الأوسط وجعله مجالا لتهديد أمنها حالا واستقبالا، وعلى رأس هذه القوى روسيا والصين.
فلا يكذبن علينا أحد بإنسانية مفتعلة أو بحريات مكذوب عليها، أو بدفاع عن الإسلام الذي لحقت به أكبر إساءة من طرف الدواعش الذين أعطوا عنه أسوأ صورة للعالمين وحولوه إلى دين طوائف تتفنن في القتل وتدمير الحضارة وإحياء السبي والعبودية. وحين أسمع وأقرأ مواقف ليساريين وحقوقيين مما يحدث في حلب استعيد بالله من الشيطان الرجيم، فهؤلاء إما أنهم يشاهدون "الخنزيرة" أو الإعلام الفرنسي ويصدقون ما يسمعون أو يتأثرون بالحملات الداعشية المتسترة في شبكات التواصل الاجتماعي بسهولة أو خارج التغطية.
داعش انهزمت، وطبيعي أن يلجأ كل داعميها لاستدرار العطف والبكاء لتمكين من بقي منها ومعها من فرص العودة للقتل أو الفرار. وهناك انتصار روسي بيّن وسقوط لمشاريع القوى المنافسة، وطبيعي أن تستمر المعارك بين القوى المتصارعة في الشرق الأوسط بأساليب أخرى، ليس محبة في أحد أو في طائفة من الطوائف، بل دفاعا عن المصالح الإستراتيجية. وفي هذه الأجواء يصعب الإمساك بالتطورات والأحداث من طرف من لم يستجمع معطياتها الحقيقية ويحللها. ومن المؤكد أن أي موقف يقوم على الخلط يصبح "هبلا". فالأولوية اليوم لوقف الحرب والدمار والتهجير الجماعي ومعالجة الجرحى والمرضى ومحاصرة الدواعش وأشباههم وضمان وحدة سوريا و التهييء للانتقال بهدوء إلى ما بعد بشار.
مصلحتنا الوطنية الإستراتيجية نحن تتمثل في الدفاع عن وطننا في وجه كل ما يهدد وحدته الترابية وأمنه واستقراره، بما في ذلك الشتات الداعشي، وفي السير بخطى ثابتة على طريق بناء ديمقراطية قوية بتوافق كل قوى الوطن تمكن الشعب المغربي من الحرص على العيش المشترك وتقوية الإحساس بالانتماء وتجعل بلدنا منارة حقيقية في محيطها الإفريقي والعربي.