قال لي: تحدث عربي يا أخي..
قلت له أنا أتكلم معك عربي طبعا .اين المشكلة؟.
قال : لا أفهمك جيدا.جاوبته : لنتحدث فصحى إذن. دع عنك لهجتك المصرية و أترك مغربيتي الدارجة.
هكذا كان ردي مع صحفي مصري زائر للرباط قبل سنوات ..ياتي ضيفا عندك و يسعى لفرض هيمنة .عليك أن تتحدث عايز و عايزة و تنطق الجيم كيييم بزز منك.
اللغة مجال تواصل. رسالة ومرسل إليه و باعث و متلق..و يمكن أن تتواصل بأي لغة أو لهجة و إشارات و رموز و أصوات و سيميولوجيا و حركات و موسيقى و سينما و رسوم و بدون كلمة.
أفلام عظيمة لشارلي شابلن هزت وجداننا و لم تكن ناطقة.
شاهدت هذا الاسبوع مسرحية “بلا سمية”..بدون إسم؟
فرقة “داهاواسا ” كما عودتنا تبحث عن تجريب صيغ و أساليب في المسرح غير مألوفة.شاذة.متمردة.
العرض كان خاليا من الحوار والكلام..كأنها مسرحية بدون نص.ملعوبة بلغة الجسد والموسيقى و الرقص و الكوريغرافيا و الدوران و أصوات الغابة و الطيور و صياح الانسان القديم و ترانيم صوفية.
لا نحتاج إلى الكلام و الهضرة حين لا تسعف العبارة..أشياء أخرى كثيرة قد تنوب..”بلا سمية” يمكن أن تقرأها بالدارجة أو بالفصحى أو الفرنسية أو لغة الامازون.
قاموس نور الدين عيوش أثار جدلا من منطلقات مختلفة..
لكل أمرئ ما نوى..منهم من ينطلق من خلفية دينية محافظة ومنهم من يخشى أن يسقط المعبد فوق رأسه..ومنهم من يرى الصورة كولونيالية و فرانكوفونية تحركها أقطاب ومصالح إقتصادية..
الرافضون للقاموس أنواع ..من ينطلق من عقيدة عروبية ضيقة مشرقية لم يتخلص منها..كما أن هناك من ينطلق من معطى لغوي لساني سوسيولوجي يخص الشخصية و الهوية المغربية.
لم أر في قاموس عيوش ما يثير كل هذا الخوف والفوبيا على مصير الفصحى.
الفصحى لها أرضها التي تعيش عليها و لا خوف من الدارجة التي عاشت دائما الى جانبها تحت سقف واحد.
لم أفهم في يوم ما أن الدارجة خصم للفصحى و عدوة لها..
قرأت وسمعت وطربت للفصحى والدارجة في قالب واحد ..في سياق واحد. في تدريحة واحدة كما يقول أهل الكيف والسبسي .. زواج خصب في أسلوب واحد و ثوب واحد و جبة واحدة و لم يحدث الزلزال..
قرأت روايات مصرية تبدأ بالمصرية المحلية و تنتهي بها و تحتل ” الدارجة” المصرية ثلثي أو 90 في المائة من الرواية.و لا ضجر و لا خوف على الفصحى..
قرأت رواية لسليم بركات نسيت إسمها اللحظة كلها لبنانية محلية.لم أكملها .لكنها تظل عملا أدبيا معترف به..
لماذا نسقط في هذه الحرب المعلنة بين الدارجة والفصحى ؟..كأن الدارجة سقطت من السماء السابعة ولم تنبت هنا فوق هذه الارض ومع هؤلاء البشر.
الدارجة نتاج من الفصحى و الفرنسية و الأمازيغية و الإسبانية و البرتغالية و بقايا اللغات التي عبرت البلد..
إستمعت لأغلى الاغاني المغربية التي كتبها علي الحداني و الطيب لعلج وكانت كلها دارجة و فصحى في طبق من ذهب..هل نتحدث عن أغاني اليهود و اشعارهم و زجل العربي باطما و أحمد لمسيح و مراد القادري و أغاني الملحون ورسائل المخزن والسلاطين للزوايا والباشوات والقياد والكتاب التحفة “حول مائدة الغذاء ” للمختار السوسي..و محمد برادة في “لعبة النسيان” وأدب زفزاف و سيناريوهات الافلام و مسرح الصديقي و غيره و ما إلى ذلك ..وكلها فصحى تعانق الدارجة في عجينة أدبية و شعرية راقية رائعة..أين المشكل في الدارجة؟؟
المشكل في رأيي حين نفرض دارجة حومة أو مدينة على البلد قاطبة..
الدارجة التي أحب هي دارجة أمي أولا. ثم دارجة حي السواني.. ثم دارجة القصبة و أحياء أخرى كانوا ينطقون القاف ألفا . قال لي: آل لي..ثم دارجة المغرب كله..هذا هو التطور الطبيعي..
لما سمعت عمر عبد الحفيظ أول مرة يتحدث عن “الخدمي” هو الذي أتى من فيكيك و وجدة غلى الرباط لم أفهم من يكون هذا السيد “الخودمي”؟ ..لم أساله خجلا و دهشة..ساعرف لاحقا أن الخودمي عند أهل وجدة هو الموس أو الشفرة.
ستقع لي حكايات أخرى مثل ما وقع لي مع الخدمي حينما صدمتني كلمة ” خوااار” ..ويقصد بها الطلبة آنذاك : هائل ..رائع..
كنت أسمع لتلك “الخواااار” و أحاول وضعها في السياق للفهم و لا أدرك المعنى لأن “خوار” عندي أنا الطنجاوي ليست هي “خوار” الرباط و كازابلانكا. تعني العكس تماما..خوار.. كيخور تخوار..
سأتعلم دارجة الدار البيضاء والرباط. وأنصهر.
ها أنا اليوم أفهم جيدا أحمد نجيم حين يقول مطايفة في الحي المحمدي. كنت لا أعرف سوى “شنديلة” مرادفا للعراك.
لكن تبقى كلمات والدتي ترن ناعمة حنونة عاشقة في أذني.
كانت تقول : أمنوس.وأعتقدت أن” أمنوس” الامازيغية و معناها الهموم دارجة عربية.
سمعت: أساينو .ولم أكن أعرف أنها كبيدة ديالي. المهم كنت متيقنا أن والدتي تقول لي أحبك..
كنت أقول ” أسلاس ” وأقصد الظلمة..ولا أعرف المصدر أنا الريفي المزور المخدوم بلسان و ثقافة مغرب متعدد.
أحبك أمازيغيتي.أحبك دراجتي كما أنت..أحبك عربيتي..
نحن عابرون والبقاء للأصلح..
عمر أوشن.