ربما لم يعد اليوم لهذا السؤال أهمية كبيرة بالنسبة للمجتمعات الديمقراطية في الغرب التي بلغت قدرا من العلمنة الفعلية على مستوى الحياة اليومية للأفراد والتي تراجع فيها دور الدين إلى دائرة الحياة الخاصة باعتباره تجربة روحية شخصية وتحقق فيها استقلال المجال السياسي عن سلطة الكنيسة بعد صراع مرير معها وتم فيها الاعتراف بالعقل كسلطة و مصدر وحيد لكل معرفة متعلقة بالإنسان و المجتمع و بالطبيعة .. أي أن تلازم العلمانية مع الديمقراطية أصبح تحصيل حاصل بحكم الواقع وبحكم تطابق أو تشابه السياق التاريخي والبيئة الفكرية لنشأة وتبلور كلا المفهومين في التجربة الغربية وخصوصا من خلال ارتباطهما الوثيق الذي جسدته قيم الثورة الفرنسية.
لكن نفس السؤال سيتخد بُعدا إشكاليا عندما نحاول صياغة جواب عنه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ( مع بعض الاستتناءات القليلة) التي ما زالت تترنح بين الرغبة في الانفتاح من جهة على تجارب الأمم المتقدمة والاستفادة منها لتجاوز تأخرها التاريخي، وبين الحفاظ من جهة أخرى على مقومات هويتها.. وهكذا أصبح سؤال العلاقة بين الدين والدولة يطرح علينا تحديا نظريا و سياسيا ويشكل عائقا أمام حل إشكالية الديمقراطية في مجتمعاتنا التي انقسمت فيها النخبة بين تيار حداثي تقدمي يتبنى بعض القيم العلمانية و تيار تقليدي محافظ يعتبر أنه من غير الممكن الفصل بين الدين والدولة ويعتقد أن الإسلام يقوم ضرورة على الجمع بينهما .. و ربما يكون لعدم الحسم في الإجابة على هذا السؤال دورا كبيرا في عدم نجاح الثورات الديمقراطية في العالم العربي وتحولها في عدد من الأقطار من مطالب عادلة بالحرية والكرامة إلى صراع متوحش حول السلطة ..
إن الانتقال إلى الديمقراطية يستوجب بالضرورة حوارا عميقا بين التيارين أعلاه للاتفاق على طبيعة الدولة وطبيعة العلاقة التي تقيمها مع الدين، بما يضمن التعايش بين كافة المكونات السياسية للمجتمع، مثلما يضمن التداول السلمي بينها على السلطة .. حوار ينبغي أن يفضي إلى الاتفاق على مضمون موحد وديمقراطي لمفهوم الدولة المدنية الذي أصبح يرفعه البعض من الطرفين كشعار دون الإفصاح عن مضمونه صراحة ..
الدولة المدنية غير موجودة كمصطلح سياسي في المراجع السياسية و حتى عندما نريد ترجمتها إلى الفرنسية مثلا، فإننا سنجد أن المقصود هو الأحوال المدنية أي الأحوال الشخصية و ليس نموذجا للدولة .. و مع ذلك فإن الرواج الذي عرفه المصطلح على الصعيد الإعلامي والتداول السياسي إبان الحراك العربي، أفضى إلى تعريف مفاده أنها الدولة التي يكون فيها الحكم للشعب من خلال صناديق الاقتراع، مع استبعاد تحكم رجال الدين والعسكر .. و هذا في الواقع تعريف قد لا يقدمنا كثيرا، فالإسلامي الدي يدفع بمفهوم الدولة المدنية بمرجعية إسلامية إنما يقصد بالأساس استبعاد العسكر والعلمانيين عن الحكم، والعلماني يقصد منه استبعاد رجال الدين ونموذج الدولة الدينية ..
في الواقع لم يعد بإمكان الإسلاميين ( المعتدلين طبعا) الدفاع صراحة عن الدولة الدينية التي طالما حلموا باستعادتها لتطبيق الشريعة وإقامة النموذج الإسلامي في الحكم كما يتصورونه، لأن الديمقراطية أصبحت تفرض نفسها على الجميع. وبالمقابل يجد الحداثيون بدورهم صعوبة في استنبات مفهوم الدولة العلمانية في مجتمعات ترسخت فيها صورة سيئة عن العلمانية كمذهب يعادي الأديان ويستبعدها من الحياة العامة، بالرغم من أن العلمانية لا تعني الإلحاد وليست أكثر من حياد الدولة تجاه الأديان و المعتقدات الخاصة والمساواة بين المواطنين أمام القانون ..
في اعتقادي - وأنا هنا أتبنى قراءة جابرية في الموضوع - ينبغي بموازاة رفض نموذج الدولة الدينية، التخلي كذلك عن شعار علمانية الدولة كحل لمشكلة التوظيف السياسي للدين، على اعتبار أن العلمانية بما هي فصل للدين عن الدولة، تكون جوابا عن وضع خاص، يتميز بنوع من الصراع أو المنازعة في الاختصاص، بين سلطة روحية تحتكر لنفسها الدين، و تتحدث باسمه، وبين السلطة الزمنية التي تمثلها الدولة ككيان سياسي .. وهذا غير مطابق لواقع الحال عندنا ولحاجياتنا، بحيث أن هذه السلطة الروحية غير موجودة في الإسلام نظريا على الأقل و حتى عندما توجد عمليا فإنها تكون في خدمة السلطة السياسية للدولة وغير مستقلة عنها وبالتالي لا نكون إزاء وضع دولة داخل الدولة الذي هو مبرر الفصل الذي جعل من العلمانية حلا في المجتمعات الغربية ..
و من هذه الزاوية، نسعى أن نتجاوز الشعار إلى الحاجة الموضوعية والتسمية إلى المضمون الذي يمكن أن نعطيه للدولة المدنية وهو قيامها على أساس مدني وعلى دستور تعاقدي و على احترام القانون الوضعي باعتباره اجتهادا بشريا، مع احترام حرية الاعتقاد وقيم المواطنة والحرص على المساواة بين الجنسين وبين المواطنين عموما وعدم توظيف المقدس في السياسة .. بمعنى آخر ندعو إلى تبني المضمون الدي اقترحه المفكر محمد عابد الجابري بديلا عن العلمانية أي الديموقراطية و العقلانية، على اعتبار أن الديموقراطية تعني :-حفظ الحقوق، حقوق الأفراد وحقوق الجماعات - وأن العقلانية تعني -الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج- .. وعوض استبعاد الدين عن الحياة العامة نقترح الإصلاح الديني وتشجيع الاجتهاد على ضوء الفكر المقاصدي و تبني القراءات المتنورة للدين والاستعادة النقدية والعقلانية للثراث ..
أعتقد أن المصالحة بين الفكرة اليسارية والدين ممكنة، بل وضرورية طالما أن جوهرها ليس معاداة الدين ولا معاداة معتقدات المجتمع الذي يسعى اليسار إلى الدفاع عنه وإقناعه بمشروعه التنويري والتغييري نحو الأفضل .. وأن المطلوب من الفاعل السياسي هو إبداع حلول لمشاكل مجتمعه الحقيقية من خلال التفاعل مع الواقع الملموس وليس فرض رؤيته الخاصة على المجتمع من خلال صورة مثالية يرسمها عنه تحت تأثير سلطة المرجع الإيديولوجي الذي يستمدها منه ..
فكرة العلمانية (بما هي فصل الدين عن الدولة وليس فقط عقلنة العلاقة بين الدين و السياسة) قد لا تكون في تقديري ضرورية للديمقراطية .. تماما كما لم تعد فكرة الجمهورية ضرورية لها .. نعم لم تعد هذه الفكرة قضية مركزية بالنسبة لليسار عندما تأكد أنه بالإمكان من خلال أنظمة ملكية برلمانية وديمقراطية تحقيق نفس التراكم المطلوب الدي توفره الأنظمة الجمهورية في الديمقراطيات الغربية ..
و لنا في السويد والدول الإسكندنافية خير مثال حيث أصبحت هذه الممالك الوراثية تحت قيادة اليسار نفسه تتصدر بحسب مؤشر الديمقراطية العالمي لائحة البلدان -المكتملة الديمقراطية- متقدمة على جمهوريات عريقة في الديمقراطية بما فيها فرنسا نفسها .. هذا دون الحاجة إلى التذكير طبعا بتفوقها على النظم الجمهورية الاستبدادية المتخلفة لأن المقارنة هنا لن تستقيم من حيث المبدأ ..