ترأس الملك محمد السادس، ورئيس جمهورية نيجيريا الفيدرالية محمدو بخاري، السبت 3 دجنبر الجاري، بالقصر الرئاسي بأبوجا، حفل إطلاق مشروع إنجاز خط إقليمي لأنابيب الغاز سيربط الموارد الغازية لنيجيريا بموارد العديد من بلدان غرب إفريقيا والمغرب.
قبل ذلك، سرت أخبار بأن غاز نيجيريا سيجد له منفذا لأوروبا سيقوم بتأمينه المغرب، و أن الاتفاق الاستراتيجي الذي أشرف عليه الملك محمد السادس شخصيا، سيتعدى طابعه الثنائي، ليكون مشروعا متعدد الأطراف، و هو ما أثار قلق و حنق المسؤولين في الجزائر، ما انعكس جليا على عناوين جزء كبير من الصحافة الجزائرية، حيث عنونت جريدة “الخبر”، على سبيل المثال لا الحصر: “الرباط تعلن حربا طاقوية على الجزائر”..
فما حقيقة الأمر؟
في يناير 2002، تم التوقيع على مذكرة تفاهم بين سوناطراك (شركة عمومية جزائرية تستغل الموارد البترولية في الجزائر منذ عام 1963)، والشركة الوطنية النيجيرية للنفط، لاقامة ما يعرف اليوم بالمشروع النيجيري-الجزائري “نيغال” (NIGAL pipeline)..
ثلاث سنوات بعد ذلك، ستوقع الشركتين النيجيرية و الجزائرية عقدا مع مجموعة “بانسبان” المحدودة لعمل دراسة جدوى للمشروع.
في عام 2009 أعيد تجديد مذكرة التفاهم التي انضمت إليها النيجر في أبوجا.
سنة 2013، بعد الهجمات الارهابية على وحدة الغاز في عين أميناس بالجزائر التي أدت الى مقتل 40 شخصا من العاملين هناك، أغلقت المشروعات التي تديرها سوناطراك الحكومية بمشاركة “بي بي” و”شتات أويل” النرويجية.
(NIGAL pipeline) كان سيبدأ من نيجيريا تحديداً. انه أنبوب غاز عابر للصحراء، عرف ب”خط انابيب الغاز العابر لافريقيا”، يمر عبر النيجر، ليصل الى الجزائر، ثم يتفرع الى عدد من الخطوط أبرزها خط تونس-جزيرة صقلية، وخط الجزائر-ايطاليا عبر سردينيا، وخط الجزائر-اسبانيا عبر خط “ميدغاز”، وخط الجزائر-اسبانيا أيضا، ولكن عبر المغرب (الذي جذب شركات “غازبروم” الروسية العملاقة للغاز وشركة “توتال” الفرنسية وغيرهما للإستثمار فيه).
لكن لماذا فشلت الجزائر في تنزيل هذا المشروع و ضمان تمويله رغم أن هيئات دولية، منها البنك الأوروبي للاستثمار ومجمع غازبروم وعدة شركات دولية، أبدت اهتمامها بالمشروع ولمحت إلى إمكانية المساهمة في تمويله في سياق ضمان تموين السوق الأوروبية بكميات إضافية من الغاز؟
التواريخ أعلاه تعطينا مقدمات للاجابة عن هذا السؤال..
أولا: كأغلب المشاريع التي تطلقها الجزائر أو تكون طرفا فيها، هناك دائما ادارة ضعيفة و عديمة الكفاءة، مما ينتج عنه تمطيط للاجال و دراسات جدوى بنتائج غير مضبوطة و ميزانيات غير حقيقية، تستمر في الارتفاع كلما تقدم انجاز مشروع ما..
ثانيا: ارتباطا بالجدوى، تم التوقيع على اتفاق بين الجزائر و نيجيريا أول الأمر في سنة 2002، وتم انتظار سبع سنوات حتى توافق النيجر، لأن الخط لا يمكن أن يصل الجزائر دون المرور منها..
ثالثا: قدرت الميزانية الأولية للمشروع بعشرين مليار دولار، وهو رقم كبير، الأمر الذي زرع الشكوك في الأطراف التي أبدت مبدئيا رغبتها في المشاركة في تمويله، وطرح أسئلة حول جدية “دراسة الجدوى”..
رابعا: تزامن طرح المشروع مع استفحال الأزمة في أوروبا وكذا تأثيراتها على استهلاك الغاز.
خامسا: أنبوب “نيغال” يمتد إلى أكثر من 4128 كيلومتر، أكبر جزء منه يقع في الجزائر بمسافة تبلغ 2310 كلم، مقابل 1037 كلم في نيجيريا. وبالنظر الى أن الأوضاع الأمنية في الجزائر لم تسمح لها حتى بحماية حقول تحت سيادتها، و لا حتى حماية الاستثمارات الأوربية في عين أميناس، كان من المستحيل أن تنجح الجزائر في جمع تمويلات أو اقناع أبناك وصناديق سيادية بالاستثمار في مشروع ضخم لا يمتلك حظوظا في النجاح اداريا و أمنيا و استراتيجيا.
سادسا: رغم أن شركة سوناطراك الجزائرية تعتبر شركة قوية تستثمر في العديد من الدول، ومنها مالي وليبيا، وتعمل في بعض الدول الاوروبية (إسبانيا، إيطاليا، البرتغال، بريطانيا)، وفي أمريكا اللاتينية (البيرو) وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية. ورغم أنها تحتل المرتبة الأولى في مجالها بإفريقيا، والثانية عشر في العالم، وهي أيضا رابع مصدّر للغاز الطبيعي المميّع وثالث مصدّر عالمي لغاز البترول المميّع وخامس مصدّر للغاز الطبيعي. ورغم أن الجزائر هي الدولة الثالثة بعد روسيا والنرويج في تغذية أوروبا بالغاز.. الا أن المغرب استطاع أن ينتزع منها مشروعا استراتيجيا لايصال الغاز من افريقيا الى أوروبا بالنظر الى ثلاثة عوامل أساسية..
أولا: محمد السادس زعيم افريقي برؤية واضحة
يمتلك الملك محمد السادس مميزات عدة، ولكن أهمها هي وضوح الرؤية، ليس فقط بالنسبة لافريقيا، و لكن أيضا بالنسبة للمغرب على المستوى الداخلي قبل الخارجي، لقد فهم العاهل المغربي مبكرا بأنه لكي يكون للمغرب اشعاع جهوي و اقليمي و دولي، فلابد من أن يكون “الداخل” قويا، و هو ما سار عليه رغم التحديات الكبيرة و المشاكل التي يمكن أن تبرز كعائق أمام هذا الطموح المغربي “الجامح” بين الفينة و الأخرى..
زيارات جلالة الملك لغرب افريقيا منذ سنوات، ولشرقها منذ أسابيع، أشرت على شيئ أساسي في العلاقات بين الدول، و هي المصداقية و القدرة على التنفيذ، و هذه أمور يصعب على الجزائر مجاراتها بالنظر الى رئيسها “المختفي”، و خصوصا لأن مواردها أصبحت تعاني الندرة و سوء التدبير..
محمد السادس رجل أفعال لا يتحدث كثيرا.. أي أنه انسان عملي، و فضلا عن هذا فهو يتقاسم خبرات المغرب في مجالات عديدة مع أشقائنا الأفارقة، و هذا معطى اخر لا تمتلك فيه الجزائر الا النزر اليسير..
ثانيا: مؤسسات عمومية و خاصة مغربية قوية و ناجعة
يمكن للملك محمد السادس أن يعتمد على ركائز اقتصادية مغربية راكمت خبرات و تجارب و نجاحات منذ عقود، كما أنه يجني ثمار سياسته الاقتصادية في خلق “أبطال وطنيين” في المجال الاقتصادي بميادينه و فروعه المتنوعة.
التوقيع في نيجيريا على مشروع خط أنابيب الغاز لم يكن اتفاقا بدون مقدمات، لقد كان في خضم “رزنامة” مشاريع اقتصادية “باكيدج”، شجعت أبوجا على الانخراط بكل ثقة في العرض المغربي.
حاجتنا الى مؤسسات اقتصادية مغربية قوية اذن، ليست حاجة محلية، لقد أصبحت اليوم، أكثر من أي وقت مضى، حاجة افريقية و دولية، و نتائج استثماراتها في الخارج سينعكس على الداخل بشكل جلي في السنوات القليلة المقبلة.
ثالثا: جهاز أمني فعال و منخرط في محاربة الارهاب في افريقيا و العالم
لقد كان لفعالية التدخلات التي تنخرط فيها مختلف أسلاك الأمن و المخابرات المغربية، وقع كبير على الثقة التي أصبحت للمغرب، المغرب كعلامة على الكفاءة و الجدية و المردودية و النجاعة الأمنية.
عمل الأجهزة الأمنية المغربية في دول افريقية عديدة، فتح الباب واسعا أمام شراكات أكثر شمولا، كما فتح أعين أوروبا على شريك يمكن الاعتماد عليه حتى عندما يتعلق الأمر بأمن و سلامة القارة “العجوز”، و من هنا تم ترجيح العرض المغربي، و اختيار المغرب كرابط قوي بين افريقيا و أوروبا في موضوع أنبوب الغاز، كما في مشروع الطاقات المتجددة “نور” بورزازات، و الذي تراهن عليه أوروبا أيضا بعدما “خذلتها” الجزائر، برفضها استثمارات أوروبية في الصحراء الجزائرية بمبررات واهية. ترجع ل”عقدة” مستحكمة في الجارة الشرقية، تتعلق بمفهوم متخلف ل”السيادة”، يحرم الجزائريين من فرص كثيرة، فقط لأن مسؤوليهم ينتمون الى “عصور غابرة”..
الأمن والمخابرات ورقة مغربية رابحة، على المملكة الاستمرار في استغلالها بذكاء، خصوصا في المجالات الاقتصادية، لأن هذه الأخيرة هي اليوم مصدر ربح الأمم لرهاناتها، و هي أيضا مصدر الخسارة.. لأمم أخرى.. بعيدة وجارة..
بقلم شادي عبد الحميد الحجوجي