الذي يتقوقع على نفسه ولا يرى إلا حدود أرنبة أنفه سيكون في الطريق السيار باتجاه الاكتئاب الوطني. صحيح أن المغرب يعج بالنواقص، وعلى رأسها غول الفوارق الاجتماعية الصارخة، ولكن ما نحققه على مستوى الإشعاع الإقليمي في السنوات الأخيرة يعتبر مبهراً! ولهذا لابد أن نسمع الآخرين، خصوماً وأصدقاء، كيف يتابعون التجربة المغربية، وكيف أصبحوا يقيسون تطورهم بالمقياس المغربي، والمثالان الصارخان في هذا الباب هما الجزائر ومصر، دون أن نتحدث عن الأفارقة ودول المغرب الكبير الأخرى مع اختلاف الأوضاع والسياقات.
ففي الجزائر التي كان قول كلمة خير فيها عن المغرب يعتبر خيانة وطنية، أطلقت الألسن، وكتبت صحيفة "الجزائر تايمز" الإلكترونية مثلا مقالا جريئا سننشره كاملا ضمن هذا العدد، لأهميته ودلالاته في هذا التحول الذي لا نشعر به، جاء في مقدمته: «ما علاقة كوب 22 في مراكش المغربية و54 سنة من الانتصارات والأمجاد الجزائرية الوهمية؟ ... من الغباء والسذاجة بل من التفاهة الفكرية ألا نستحضر - عفويا وتلقائيا – صورة الجزائر اليوم وهي في الحضيض السياسي والاقتصادي والاجتماعي وهي الغنية جدا بغازها ونفطها ومساحتها الشاسعة، من التفاهة الفكرية ألا نستحضر الجزائر اليوم مقارنة مع المغرب الذي لا يتوفر على مقدرات غازية ولا نفطية وقد قفز قفزة نوعية غير نمطية (الصورة النمطية هي أن كل دولة نفطية وغازية فهي غنية ومتقدمة اقتصاديا واجتماعيا)، قفز المغرب قفزة نوعية، أي أبدع حلولا لمشاكله الاقتصادية والاجتماعية، بفضل عقول أفراد من الشعب المغربي، لا يدعي المغرب أبدا ولن يدعي أنه قد وصل، بل دائما يردد أنه في أول بداية الطريق وأنه يقف بين الفينة والأخرى لتقويم مسارات اختياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية».
وعندما أجرت قناة "النهار" الجزائرية "ميكروطروطوار" مع جزائريين حول الحدود مع المغرب كان الجميع بدون استثناء مع فتح هذه الحدود، واليوم نرى كيف أن رئيس الحكومة سلال قد غير خطابه تجاه المغرب عندما طار إلى السعودية، وكيف تم إرسال ثالث رجل في الدولة رئيس مجلس الأمة مع وزير الخارجية الجزائري إلى مراكش رغم القرار الذي اتخذته الجزائر السنة الماضية بعدم مشاركة أي شخصية من الصف الأول في أي نشاط سياسي يحتضنه المغرب.
كل هذا له علاقة وطيدة بهذا السهم المغربي الذي انطلق منذ أربع سنوات تقريبا دون أن نحس به، وها هو اليوم يجر أعناق الخصوم المذهولين من بلد بدون موارد طبيعية خارقة يستطيع أن يخلق كل هذه الحركية في قارة سمراء لم يكن إلى حدود كتابة هذه السطور حتى عضوا في اتحادها، بل إنه بفعل هذه السياسة الملعونة كان أكثر من نصفها ينظر إليه كبلد مغتصب توسعي قبل أن تصحح المفاهيم ونحن على أبواب دخول مظفر إلى الاتحاد الإفريقي من بابه الواسع.
في مصر أيضا، وفيما نظام السيسي متحرج جدا من تحركات الملك محمد السادس، وقد أحس بالاستفزاز عندما ذهب المغرب ليلعب ديبلوماسيا في عمقه الاستراتيجي، أي في إثيوبيا، وهي منبع النيل وما أدراك ما النيل، في هذه المصر نجد أن الكثير من الأقلام والأصوات ترتفع لتقارن الوضع هناك بالوضع في المغرب، ووصلت المبالغة بأحد المعلقين بأرض الكنانة لدرجة أنه طلب يد محمد السادس ليقبلها، وهذا غيض من فيض.
إن الطبيعة عنيدة، فالفشل رغم قساوته أسهل من النجاح، لأن النجاح مسلسل لا متناهٍ، إذا وصلت لدرجة فعليك أن تستمر في الدفع لتبقى على الأقل في نفس الدرجة، وكل لحظة توقف تجعلك تنزل، أما إذا أردت أن تصل إلى أعلى فعليك أن تبذل مجهودا أكبر وكلما اقتربت من القمة كلما كان المجهود المطلوب خارقا، وفي القضايا المصيرية، الخيارات الأسهل هي خيارات انتحارية، ولهذا نلاحظ كيف أن وتيرة العمل الإفريقي للمغرب مرتفعة جدا، ومجاراة إيقاعها صعبة بالنسبة لمن لم يكن يهيء لهذا الأمر منذ سنوات، وقبل "الكوب 22" كان الملك في شرق القارة السمراء ومنه إلى غربها فالخطاب من دكار ثم القمة الإفريقية على هامش مؤتمر الأطراف للمناخ بمراكش، فالعودة مباشرة لشرق القارة ثم مدغشقر، والاستعداد لدخول الاتحاد الإفريقي وإخراج الورقة الأضخم في هذا المشروع الإفريقي لبلادنا، وهي ورقة الفوسفاط بما تعنيه من استثمار في عصب الحياة بالنسبة لقارتنا، أي التغذية.
إن هذا الوضع الذي يكاد يطمئننا إلى أنه حالة لا رجعة فيها يكاد يحجب عنّا تحديات داخلية مقلقة، فنحن شئنا أم أبينا على أبواب أزمة سياسية في البلاد، فإذا كان تمرين تكوين أغلبية حكومية عقب كل انتخابات أمراً عادياً في البلدان الديموقراطية، فإنه تحول في بلادنا إلى مسألة تراجيدية، وهناك عديد من الأطراف تصب البنزين على النار وتقسم المغرب إلى فسطاطين، فسطاط يضم الفاسدين المتحكمين، وفسطاط يضم الأخيار والأطهار، وهذا في تجاهل تام للتاريخ المغربي الحديث الشديد التعقيد، والذي لم نخرج فيه بأي نتيجة مثمرة إلا في محطات التوافق، وحتى المستجدات التي يحصيها البعض وكأنها طارت بالبلاد سياسيا إلى ما يشبه سلوك البلدان الإسكندنافية تثير الشفقة، وهذا يهدد بكل صراحة ما نبنيه من نفوذ في محيطنا وقارتنا، والحل قريب، فالغائب الأكبر في هذه المشاورات التي خرجت من الخيمة مائلة هو التواضع والاعتراف المتبادل، فالإرادة الشعبية ليست شيكا على بياض لأي كان والزمن دوّار، وهي اليوم جعلت العدالة والتنمية حزبا أولا ولم تجعله حزب أغلبية مطلقة، وبالتالي فالمغاربة - إذا جاز هذا التعبير مع الأخذ بعين الاعتبار نسبة المشاركة المخجلة- اختاروا الائتلاف، وعلى ابن كيران المعروف بحسن تدوير الزوايا أن يكون الأكثر ضبطا للإيقاع والأكثر مرونة والأكثر حكمة حتى لا يخسر المغرب، فليس مهما أن يخسر الأحرار أو الحركة أو الاستقلال أو أي حزب كيفما كان، ولكن إذا ركنّا إلى الاستسهال والتصنيف بين المتحكم والحر وقياس نسبة الديموقراطية في الدم بمدى القبول بالمشاركة في الحكومة من عدمه، فإن كل ما سنجنيه هو التدمير الذاتي وهذا لا يسمح به الوطن.
السي عبد الرحمان اليوسفي تعرض للبلوكاج، وخسر وزارة أولى كان يستحقها كحزب أول، وبعض من يملأون الدنيا صراخا عن المنهجية الديموقراطية كانوا يتحدثون عن "مولا نوبة"، وابن كيران خسر حكومته الأولى في ظروف أصعب من اليوم، وتطلب الأمر خمسة أشهر ليكون حكومته الثانية عقب انسحاب غريب لحزب الاستقلال، وتحكمي الأمس قد يصبح ديموقراطي اليوم، وهذه التصنيفات إذا أردنا في المغرب أن نجعلها مبدئية فلن يبقى هناك ديموقراطي في هذه الأحزاب المتراقصة أمامنا.
كل الخيارات صعبة، فالسهل هو الكنبة، أما العمل السياسي فجبال من الامتحانات نراها كل يوم، وأحسن مخرج لما نحن فيه هو أن يتوافق الفاعلون من أجل البلاد بعيدا عن التأويلات الدستورية البيزنطية.
الشعب فوض إلى ابن كيران تشكيل حكومة ائتلافية وعليه أن يفعل ذلك نقطة إلى السطر.