يحكي المفكر والوزير السابق اللبناني [رايمون أده] أنه في سنة 2002، لم يحصل تلاميذ إسرائيل على معدلات جيدة في امتحانات تلك السنة، وخاصة في المواد العلمية؛ فحصل استنفار في أوساط التربية والتعليم، وعُقِدت مناظرات، ومؤتمرات، شارك فيها خبراء التربية، والوزراء، وكذلك آباء وأولياء التلاميذ، والمدرسون؛ فخرجوا بتوصيات، واقترحوا حلولا علمية للمشكل، بعيدا عن السياسة ونوازعها،لأنه كما قالوا: اليهود محاطون بأعداء، ولابد للأجيال الإسرائيلية القادمة، أن تكون مهيّأة عقليا ومعدَّة فكريا لاستعمال الأسلحة المتطورة علميا وتكنولوجيا،لأن الأمر يتعلق بمستقبل إسرائيل، وأطفالُها هم الضامنون لمستقبلها، وبقائها،وأمنها، وسلامتها.. وفي سنة 1999 حصل خللٌ في الروبوت[البات فايندر] أي[مستكشف الطريق]على سطح المريخ؛ واحتار الخبراء في حل المشكلة،رغم محاولات شتى؛فاستُدعي طلبة من الكلية التكنولوجية،ومن الساعة السادسة مساءً حتى الساعة الرابعة صباحا،وهم يحاولون إصلاح[الروبوت]،مع العلم أن الإشارة تحتاج إلى عدة دقائق كي تصل إلى الكوكب الأحمر البعيد؛ومع ذلك أُصلح[الروبوت] وانزعج الآباء لأن أولادهم لم يعودوا إلى بيوتهم تلك الليلة؛فكانت السلطات تطمْئِنهم، لأن العملية أحيطت بالسرية؛ولم يعد الطلبة العباقرة إلى أسرهم إلا بعد طلوع الفجر،بعد إنجازهم الرائع والمذهل الذي أنقذ رحلة فضائية كانت قد كلفت الملايين من الدولارات،وأدى[البات فايندر]عمله على سطح الكوكب الأحمر بنجاح، ونفذ برنامجه العلمي الاستكشافي بشكل كامل غير منقوص.. كان التعليم ببرامجه،هو الذي مكن أمريكا من اللحاق بروسيا في مجال غزو الفضاء،والذي انتهى بالنزول على سطح القمر سنة1969،وهو الإنجاز الذي مازال أتباع [ابن تيمية] يكذّبونه، ويحذّرون الشباب من تصديقه،لأنه كفرٌ، وزندقة، وشرك بالله عزّ وجل؛ وبقي الشباب يدرس فقط في مجال الشعر والعروض والأوزان، قصائد فيها ذِكْرُ القمر، مثل ما جاء في شعر [امرؤ القيس]: دَنَتِ الساعةُ وانشقّ القمر * عن حبيب صاد قلبي ونفر.. يا سلام!
كلام كهذا لا يُكْتَب لمن يتناحرون على غنائم الانتخابات، أو للذين يخربون التعليم، فهؤلاء لايهمهم دخول التاريخ، ولا غزو المريخ، بل شعارهم هو:( نَظِّف الخزينة،واجْعَل الأمّة حزينة،ثم تلذذْ بالسلطة والمال،ودَعِ الأمجاد ترحل لبُغيتها واسْتَرحْ". فالتعليم كان ومازال من الكماليات؛والإنفاق عليه مجرد تبذير،والتبذير حرام شرعا فيما الإنفاق على التفاهات،وتحسين أوضاع الفاسدين،هو من ضرورات العصر، ومن الأوْلويات التي تهون أمامها الملايير من خزينة الدولة، وكل من يرى عكس ذلك،فهو خائن ومُعادٍ لوطنه،وجب سلْخه، أو قمعه، حتى يثوب عن ردّته، ويعترف بخطئه؛ وهو ما عناه [أبوالعلاء المعري]: جلَوْا صارما وتلوا باطلا * قالوا صدقْنا فقلنا نعم.. وهذا يلخّص ما يحدث في بلادنا الآن.. لقد سمعتُ [الداودي]يقول إنه كل من أراد لأبنائه أن يدرسوا، يجب أن يعتمد على جيبه؛ وهو كلام لم يَقُلْ به أحدٌ عبر التاريخ.. فهؤلاء أبناء الأمة، وهي الكفيلة بتربيتهم، يا هذا.. ثم سمعت [بنكيران] يقول إن المواطن عليه أداء ثمن تدريس أبنائه، و[طه حسين] يقول إن حق المواطن في التعليم، كحقه في الماء والهواء، وقد اهتدى إلى ذلك، رغم أنه كان فاقدا لبصره؛ و[بنكيران] رغم أنه يبصر، فإن الله طمس بصيرتَه ليُكتَب له الشقاء في حق أمة أشقاها.. ثم ماذا؟ أجاز تشغيل الأطفال،وخصم نصف منحة الأساتذة المتدربين، وقد كانوا في السبعينيات والثمانينيات يتقاضون [1500] درهم آنذاك، رغم الظروف الصعبة؛ فإنهم في عهد [بنكيران] أصبحوا يتقاضون بالكاد ألف درهم؛ ثم حتّم عليهم القبول بالتوظيف بالعقدة مثل المرتزقة الذين يشتغلون بالعقدة مع وكالات [كلاب الحرب] في إفريقيا ذات يوم؛ثم زاد في سن التقاعد،وفي الاقتطاعات، وخصم الثلث من راتب المتقاعد، ويسمي ذلك إصلاحا،فيما يتبرع على الوزراء بسبعين مليونا عند خروجهم من بستان الأمة منتفخي البطون، ثم مكّن البرلمانيين من تقاعُد مريح، وقمع المكفوفين، وجلد المحتجّين، وسلخ المدرّسين..
إن إصلاح التعليم في البلدان الراقية، يتكفل به الخبراء، وفلاسفة التربية والمفكرون من أمثال [بياجيه؛ ومالرو؛ وأوكتاڤيوباز؛ وطه حسين] وغيرهم، بعيدا عن الحزبية، لأن ذلك يحدث فقط في البلدان الديكتاتورية مثل النازية ذات يوم في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، والشيوعية في روسيا؛ لكن هذا لا يحصل في الدول الديموقراطية حقا وصدقا.. والملاحظ أن التعليم في الوطن العربي ككل، سار في خط تموُّجي، ثم صعودا وهبوطا، حسب تغيرات المناخ السياسي، مما حكم عليه بالتخلف والتطور إلى الوراء، إذ كل تيار جعل التعليم في خدمة إيديولوجيته.. وهكذا، مر التعليم بالاتجاه السلفي [إذ لا يُصلَح الأواخر إلا بما صلُح به الأوائل]؛ ثم جاء التيار القومي [إذ القومية هي أن ينتمي الفرد إلى شيعته، وعشيرته، وجماعته، وبالجملة إلى آبائه وأجداده]؛ ثم جاء اتجاه التغريب [لأن الغرب هو سيد الحضارات، والقابض بناصيتها،والمنتج لوسائلها]؛ ثم جاء الاتجاه الاشتراكي؛[لأن فردا هو عضو في جماعة، والاشتراكية ترفض الطبقية] ثم انهارت الاشتراكية وبرزت فلسفاتٌ تدّعي العلمية والمنهجية مثل [البِنائية]، وقد اعتُمدت في مجال التربية، وكانت النتائج كارثية؛والآن سادت الليبرالية المتوحشة،واعتبرت التلاميذ مجرد قطيع ،والمدرسين مجرد رعاة مرتزقة،سوف يشتغلون بالعقدة في مدارس استحالت إلى ضيعات مواشٍ، وهو ما لا يتطلّب الإنفاق عليه؛فالعاملون في حقل التربية، هم مجرد أرقّاء، يمكن الاستغناء عن خدماتهم، وإحالتهم على البطالة، وبذلك ينقطع عملهم،ويفقدون معاشاتهم؛ فالإنسان،وإنْ يكنْ ابن المكان، فهو كذلك ابن التربية والتعليم؛ وهذا هو نوع التعليم الذي يريدون له، حتى يمكن استرقاقُه، والسيطرة عليه، فيقبل بما يتصدّقون به عليه، وسوف يكون مدينا لهم بالفُتات الذي يُلقى به إليه؛ وهذا هو الإصلاح الذي بدأ فعلا..