الاقتصاد يتحرك بين حالات الانتعاش ثم الرواج، تعقبها حالات التباطؤ والانكماش، ثم الكساد والركود، وهذه الحركة هي ما يطلق عليها في علم الاقتصاد الدورة الاقتصادية.
تحدث الاقتصادي النمساوي شومبيتر عن دور الاختراعات والابتكارات في قيادة الرواج الاقتصادي، وكيف أن تراجعها أو انخفاضها يؤدي إلى انكماش يعقبه كساد وركود.
وحالياً يتجه الاقتصاد العالمي إلى مرحلة التباطؤ بعد الرواج الذي شهده لفترة طويلة، هذا الرواج الذي ارتكز لسنوات على نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، والرواج الذي قادته إعادة إعمار الدول التي دمرتها الحرب العالمية، فوجد الرواج أساسه في زيادة التبادل الدولي، والنشاط العقاري، وإعادة الإعمار، وقام نظام بريتون وودز، الذي أسس بعد الحرب العالمية الثانية، على دعائم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وعلى نظام نقدي مقوم بالذهب، حينها يعتمد الدولار كعملة احتياط دولية.
واستمر التوسع الاقتصادي والرواج العالمي فترة الخمسينات والستينات من القرن العشرين في فترة قادتها الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، عززت التوجه نحو الابتكار والتصنيع والمنافسة، فقادت هذه الفترة بدورها عمليات التصنيع والتسليح والرواج الاقتصادي.
وفي السبعينات من القرن العشرين، قاد ارتفاع أسعار البترول الاقتصاد العالمي إلى طفرة جديدة في صناعات البتروكيماويات والبحث والتنقيب عن البترول وتطوير المحركات الموفرة لاستهلاك الوقود، والبحث عن بديل أرخص لمصادر الطاقة، حتى قادت هذه الابتكارات فترة السبعينات والثمانينات؛ ليستمر الرواج الاقتصادي العالمي.
وفي الثمانينات والتسعينات قادت ثورة الإلكترونيات الاقتصاد العالمي نحو الرواج بدءاً من اختراع الترانزستور حتى الأجهزة المنزلية الحديثة والكومبيوتر.
ومع بداية عام 2000 قادت الثورة الكبرى في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وانتشار الإنترنت والهاتف المحمول قادت هذه الثورة الاقتصاد العالمي في رواج وازدهار استمر حتى أخذت الابتكارات في مجال الاتصالات تتباطأ معلنة معها أفول هذه الموجة من الابتكارات التي قادت الاقتصاد العالمي.
الملاحظ في مجال الاتصالات أن الابتكارات، وإن كانت مستمرة، إلا أنها لم تعد على وتيرتها السابقة في أجهزة المحمول واللابتوب وغيرها، وإن ظلت مستمرة في التحسين والجودة، إلا أنها لم تعد قائدة للرواج الاقتصادي، كما كانت وتباطأ منحنى الابتكار والتطور فيها إلى مستوى التطور والتقدم الطبيعي الذي يسير في أي مجال صناعي.
ما سبق يعني أن الاقتصاد العالمي يحتاج إلى ثورة جديدة من الابتكارات تقود الاقتصاد العالمي وتعطيه الدفعة ليقود باقي القطاعات الاقتصادية.
إلا أنه حتى الآن لم تتضح معالم الثورة التي من الممكن أن تدفع الاقتصاد العالمي لمنطقة رواج جديدة، وبالعكس فقد ظهرت بوادر التراجع والتباطؤ بشدة للاقتصاد العالمي.
فالولايات المتحدة ستتجه الفترة القادمة بعد فوز ترامب إلى ميزانية انكماشية بسبب تضخم الديون الأميركية، وستتجه إلى وضع حواجز جمركية على التجارة الدولية، معلنة بذلك انتهاء عصر حرية التجارة العالمية التي قادتها المدرسة الرأسمالية الليبرالية الحديثة، مدرسة النقديون، ضاربة بعرض الحائط اتفاقيات التجارة الدولية مع شركائها الاقتصاديين، وأكثر من ذلك ما أعلنه ترامب من أنه ينوي وضع عقبات أمام حرية انتقال الاستثمارات من الولايات المتحدة إلى الخارج، هذا الذي سيؤثر على حرية المنافسة والتطوير، التي هي أساس التنافس الصناعي والابتكار الذي يقود الاقتصاد.
كذلك الصين تشهد تباطؤاً اقتصادياً في صادراتها أدى إلى تراجع الناتج الإجمالي والتجارة الخارجية لها، التي كانت أكثر وضوحاً في تباطؤ حجم التجارة العالمية.
وكذلك الاتحاد الأوروبي الذي بدأت تظهر مشكلاته تارة من روسيا الاتحادية، وتارة مع انفصال إنكلترا عن الاتحاد.
ثم في منطقة الخليج العربي بدا التباطؤ واضحاً مع انخفاض أسعار البترول، واتجهت بعض دول الخليج للاقتراض الخارجي للمرة الأولى.
وكذلك تتفاقم مشكلة أزمة المديونيات الخارجية للدول النامية، التي يتفاقم لديها العجز، والتي قد تعجز عن سداد مديونياتها الأعوام القادمة، مما يسهم أيضاً في تباطؤ حركة التجارة الدولية لاتجاه هذه الدول، مضطرة إلى ميزانيات تقشف تسهم في تقليل حجم تجارتها الدولية، الذي سينعكس في مجموع هذه الدول النامية بتأثيرها مجتمعة على حجم التجارة العالمية أيضاً.
وبدأت تظهر محاولات شق النظام الاقتصادي العالمي الذي أسس بعد الحرب العالمية الثانية، قادت هذه المحاولات روسيا والصين، وتمثلت في تكوين تحالف البريكس والبنك الآسيوي للتنمية، ومحاولات بعض الدول اعتماد عملات أخرى للتعامل الدولي بديلاً عن الدولار، الذي سيشهد لذلك تراجعاً على الساحة العالمية لا تقارن بفترات الهيمنة السابقة التي كانت للدولار على الاقتصاد العالمي، ولكن هذا الانحسار قد يأخذ مدار العشر سنوات القادمة ليبدو واضحاً إذا نجحت محاولات بعض الدول لكسر الهيمنة الأميركية على العالم والاقتصاد العالمي في ظل المشكلات التي ستواجهها الولايات المتحدة مستقبلاً، بسبب تضخم الدين، وتراجع حجم الناتج الصناعي، والسياسة الانكماشية التي ستتبعها الفترة القادمة لعلاج مشكلاتها الداخلية.
إن تراجع الابتكارات على المستوى العالمي واتجاه الولايات المتحدة إلى وضع الحواجز الجمركية، بما يعني العودة إلى فكر مدرسة التجاريين، سيقود النظام العالمي إلى تباطؤ يعقبه انكماش وكساد سيقود النمو الهش غير الواقعي في البورصات العالمية إلى انهيارات حادة.
ولن يخرج الاقتصاد العالمي من هذه المرحلة من الكساد والركود إلا بسلسلة جديدة من الابتكارات تقود الاقتصاد إلى مرحلة توسع ورواج جديدة، أو قد تندلع حرب كبرى تعيد تشغيل الصناعات بطاقتها القصوى، تعقبها عمليات إعمار وبناء تعطي دفعة جديدة للاقتصاد العالمي.
فهل سيأتي جيل جديد من الابتكارات العالمية يقود الاقتصاد العالمي لمرحلة رواج جديدة؟ أم ستزداد محاولات شق صف الاقتصاد العالمي وزيادة الحواجز الجمركية وتباطؤ التجارة العالمية التي تقود إلى ركود وكساد اقتصادي عالمي يعقبه نظام اقتصادي عالمي جديد؟