يعتبر محيي الدين ابن عربي (558-638هـ) أحد أبرز الشخصيات التي أقامت الوجود، وجعلت الناس ينشغلوا به على مر العصور، مؤيدين ومعارضين على السواء. لقد استطاع الشيخ الأكبر بفكره وتأملاته أن يألف ما لم يألف بعد، وأبرزها الفتوحات المكية والتي جمع فيها ما بين التصوف والدين والفلسفة.
إن جمعه لهذا الثلاثي كان من الطبيعي أن يثير غضب رجال الدين والفلاسفة في نفس الوقت، إلا أن السؤال الذي نود إثارته هنا: هل نحن في الحاجة إلى فهم محيي الدين ابن عربي؟وهل لنظرته الصوفية علاقة بالواقع؟ بادئ ذي بدء نذكر أنه رغم الغموض الذي يكثرته مذهب ابن عربي، فهو في نفس الوقت سهل المِراس لمن يهتم بمفاهيمه واصطلاحاته، وهذه إحدى العوائق التي تحول دون ذلك، أي تجعل الواقع وأفكاره محال، بل إن الحيرة كذلك تزداد عند أهل العلم، وخصوصا عندما يتأملون في شعره الممزوج بالاستعارات والتأويلات وهو الأمر الذي يزيد الطين بلة كما يقال.
فالملاحظ ان ابن عربي يتحدث بلغة رمزية وإشارات صعبة الفهم، يجعل المفهوم الواحد يتحمل ما لا طاقة له، سواء بمفاهيم فلسفية أو دينية لكن بمنهج صوفي محض. فاللغة التي يتحدث بها ابن عربي ليست تلك اللغة التي تنطلق من لغة الإنسان للدلالة أو التعبير عن هذا المطلق – كل ما هو خارج عن الإنسان – وإنما العكس ينطلق من لغة المطلق مستعيرا ذلك ليعبر عن العالم وعن الإنسان بصفة خاصة، وهذا راجع الى قضية الحروف عند ابن عربي باعتباره خاتم الولاية المحمدية كما يدعي،فمن الضروري ان يكون علمه بهذه الحروف أعلى درجة من العمق، وهذا يلزمنا بأن نعود خطوتين للوراء: خطوة لمعرفة موقعنا، وخطوة لاستعادة فهمنا للسابقين عليه، من أجل فحص وتمحيص الأساسيات الكبرى لفهمه للواقع من جهة، ولتقدمه وتجاوزه له من جهة أخرى. فالحلاج الذي أعلن أنه حقق الإتحاد مع الله بقوله:” أنا الحق” فاتهم بالهرطقة ، وحكم عليه بالموت صلبا بقطع رأسه، والبسطامي الذي صرح بقوله ” سبحاني ما أعظم شأني “…وغيرهم. فالأول سقط في الحلولية (امتزاج بين الله والعالم أو جزءا منه مع بقاء عنصر كل الطرفين على حالته الأولى -الديانة الهندية -)، والثاني سقط في الاتحادية (هو أن يصير المتعدد واحدا،أي صار شيئا واحدا ). وهذا إن ذل على شيء فإنما يدل على تجربتهم في الحياة، تجربة مليئة بالروحانية. فلولا حبهم إليه لما قالوا، فلولا الحب لما كانت هناك عبادة، وكما قال وحق الهوى لولا الهوى لما عُبِدَ الهوى”.
إن استفادة ابن عربي من هؤلاء هو ما أعطاه نفحا وروحا جديدة، وهي الكتابة بالرموز، وليس كما أعتقد البعض ” أن صعوبة فهمه يكمن وراء صعوبة اللغة التي كانت متداولة آنذاك”،لأنه سيجعلني اتساءل أي منطق هذا الذي يتحدث بلغة يتحدث بها غيره في العصر نفسه؟ وأعتقد أن السبب الرئيسي في ذلك هو الخوف من الموت من جهة، والخوف من ذلك الذي لا يعرف كيف يتعامل مع النص من جهة أخرى، ونذكر هنا الشيخ شريف الرِّضَى الذي قام برد الاعتبار لهؤلاء المتصوفة عندما قال ” في داخلي كلام لو قلته لكنت ميتاً على يد هؤلاء”، بتعبيره قال :
يارُبَّ جوهر علم لو أبوح به لا قيل أنت ممن تعبد ألوثنا ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا. كل هذا الكلام فقط من أجل معرفة كيف نفهم الوجود/الواقع بما فيه الإنسان، الإنسان الذي تحايل على الوجود وهو الوجود ذاته” لا تحسب أنك جرم صغير وفيك أنطوى العالم”.
وهكذا لكي ينجو ابن عربي، نسب قوله إلى الله والرسول (ص) وقال : ولا أنزل في هذا المسطور إلا ما ينزّل عليّ ولست بنبي ولا رسول، ولكني وارث ولآخرتي حارث “. ولا يفهم من هذا القول أن ابن عربي ينسب إلى الله ورسوله ما يريده هو، بل يعزز كلامه بأحاديث وآيات قرآنية، فهو لا يسطر إلا ما ينزل عليّ أي على الإنسان كوحدة في الوجود. وبالتالي نحن في الحاجة إلى فهم هذه الشخصية، لكن لماذا ؟. أولا على اعتبار أن أهمية ابن عربي كهمزة وصل لا تقف عند حدود استيعابه للتراث الإنساني وتوظيفه له، في إقامة بنائه الفكري الفلسفي الشاهق، بل تتجاوز ذلك إلى المساهمة في إعادة تشكيل التراث الإنساني بالتأثير فيه تأثيراً خلاقاً بالدرجة نفسه. وثانيا أن استدعاء ابن عربي مع غيره من أعلام الروحانية في كل الثقافات، يمثل مطلباً، حيث في تجربته، وفي تجاربهم ما يمكن أن يمثل مصدراً للإلهام في عالمنا الذي يعاني ما يعانيه من مشكلات حياتية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أن فكر ابن عربي يقدم إلى غير المسلم صورة أخرى لروحانية الإسلام. ابن عربي ينبه إلى أمر أساسي في فهمه وفي فهمنا للواقع ، وسأعبر عنه بلغة جاك ديريدا “عليك أن تبدع في لغتك لكي تفهمني”، بمعنى أن العائق الأساسي في عدم فهمنا يكمن بالأساس في الانغلاق على محيطنا/ذواتنا على الخصوص. ابن عربي استطاع بمنهجه الصوفي أن يوحدا ما لا يمكن توحيده، وحدا العالم/الإنسانية، وهذا يعكس واقعنا المعاش، فلماذا نتسابق مع الزمن وبالتالي يسبقنا. لماذا لا نعود لفهم حاضرنا. إن المتأمل والمحلل لهذه الأبيات سيرى كيف تتجسد تلك العلاقة _ تقبل الاختلاف_ بين الذات وباقي الذوات الاخرى.
لقد كنت قبل اليوم +++ أنكر صاحبي إذ لم يكن ديني إلى دينه داني لقد صار قلبي قابلا كل صورة +++ فمرعى لغزلان، ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف +++ وألواح توراة، ومصحف قرآنٍ أدين بدين الحب أنيّ توجهت+++ ركايبه، فالحب ديني وإيماني أود أن أشير في الأخير إلى أن أهمية ابن عربي، كمفكر وكفيلسوف، حاولت أن تتجاوز إطار كل تناقضات الواقع وصراعاته. وهذا ما نحتاجه، فقد كانت فلسفته بمثابة محاولة لإزالة كل هذه التناقضات وحل كل هذه الصراعات على مستوى الفكر والعقيدة وجعل الحب كعقيدة مبدأها السلام وقبول الأخر.إن علاقتنا بالواقع مبنية على التفاوض والتسامح.
عبد الفتاح الحفوف