أمام عبد الإله بنكيران فرصة ذهبية –ربما الأخيرة – ليبرهن على إيثاره للمصلحة العليا للوطن؛ بدل مواصلة التشبث بخطاب الحزب المؤمن الفائز، الذي بوأه الله الصدارة، والذي يُخول له الدستور، والثقة الملكية، تشكيل الحكومة.
لو كان الرئيس المُعين يواجه، في تشكيل الحكومة، صعوبات سياسية حزبية، نابعة من اختلاف في البرامج، لما كان لهذا الكلام من مبرر؛ ولَعُد المخاضُ الحكومي التفاوضي الحالي استثمارا في الديمقراطية، وفي أفضل سبل التوفيق بين البرامج لتحقيق التنمية المثلى للبلاد.
لكن استقراء العديد من المؤشرات والتصريحات يؤكد أن العوائق نفسية، أكثر منها سياسية.
وإذا كان الممكنُ في السياسة تُفضي إليه سُبل شتى، فإنها، حتما، لا تمر عبر القلوب، لأن القلوب أبناك للحب الصادق، وليس للسياسة المخاتلة والمُخذلة:
إذا القلوب تنافر أهلها *** مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
فبالرغم من كل التصريحات المُنمقة، التي تقول للمواطنين بأن دواخل القادة السياسيين، الواقفين على باب الحكومة، تقطر عسلا وحليبا، بعد فصول من نقيع الحنظل؛ فإن الحقيقة أبعد ما تكون عن هذا الزعم المُوجه إلى الاستهلاك.
لا يُمكن للغِل السياسي، وليس الانتخابي فقط، أن يزول بكل هذه السهولة.
لا يمكن أن يقع كل هذا الاندحار للأحزاب التقليدية، المسماة وطنية، ولا تطرح الأسئلة الكبرى المتعلقة بـ:
المشروع التنموي المجتمعي الإستراتيجي الذي يُفترض أن يشتغل عليه الجميع، ولو باختلاف في وجهات النظر والتدبير.
مُعضلة اكتساح حزبين كبيرين للساحة السياسية واختزالهما المتعسف للتدافع السياسي المألوف في محطاتنا الانتخابية، إذ لم يعد يُرى منه – خلافا للواقع - غيرُ صراع بين توجهين: الحداثي العلماني من جهة، والأصولي الإخواني من جهة أخرى.
أقول: خلافا للواقع، لأنه خارج الاستهلاك السياسي الانتخابي الذي جيش – بالخصوص – المؤمنين ضد "الكفار " لا وجود، في القاعدة العريضة للمجتمع، لغير ظِلال باهتة للتوجهين: لا الحداثة حاضرة بكل أشراطها، ولا الأصولية الإخوانية في عرينها وحِماها.
أماني من هنا وهناك، ضُخمت لتُؤتي غُنمها؛ وتوابلُ ومُقبلات للأُكلة السياسية، بعد أن جفت أنزيمات الهضم والشهية.
ومن المفارقات أن تستقوي الحداثة بأعيان البادية (أهل الوبر)، وتُجَذِّر الأصولية نفسَها في المدن.
فعلا، نحن في هذا استثناء.
وثالثة الأثافي، النسبة المخيفة لغير المسجلين، وغير المُصوتين، من ذوي الأهلية الانتخابية، مما يفرض حضور فكر سياسي رياضي (من الرياضيات) يستميت في البحث عن المجهول، ضمن حلول المعادلة.
لقد أكدت تشريعيات السابعِ من أكتوبر حجمَ الدمار الذي لحق بالأحزاب الأخرى؛ حيثما تدافع الفيلان السياسيان؛ ولا يوجد فلاح يمكن أن يقبل بمجرد تحرك الفيل في حقله؛ بله أن يتطاحن مع فيل آخر.
وعليه فهي، وإن لم تولد بعد، حكومة عام الفيلين .
فوبيا بنكيران:
ظاهريا، لا أحد يريد لبنكيران أن يفشل في تشكيل الحكومة؛ خصوصا وقد انتُدب لها – ملكيا – قبل أن يرتد إليه طرفه، وخصوصا وقد نودي من داكار: يا بنكيران قَوِّم وسدد؛ "اغْشَ الوغى، وعِفَّ عند المغنم".
وبالرغم من هذا فهي لا تتشكل؛ ليس سياسيا وإنما نفسيا.
خارج خِلان الوفا، من أقطاب العدالة والتنمية، لا أحد يريد أن يشتغل مع بنكيران؛ إلا من والاه دون أن يحبه، والحمد لله أن "اليوتوب" لا ينسى شهادته ولا يزورها.
من المسؤول عن هذا الحصر النفسي؟
لعل الأمر انتهى ببنكيران، وهو يهز عطفيه بالبرلمان، يقهقه، يتهم، ويخدش الحياء أحيانا، إلى إنتاج "رهاب بنكيران".
ولعله، وهو يجعل من التقرب من الملكية - تقرب تائب عن ذنب في ذهنه (لم يقترفه) - أعز ما يطلب في ولايته الحكومية كلها؛ قتل الرغبة في استنساخه – بكل حبه المفرط - مرة أخرى لولاية ثانية.
وهذا لا يتعارض إطلاقا مع تمكينه، ملكيا، من حقه الدستوري في تشكيل الحكومة. ولا أحد أعلم بحقيقة تكون هذا الحق، وأصول نشوئه وارتقائه من المؤسسة الملكية.
يشهد الله أنني كلما فكرت بتجرد وعمق في "الظاهرة البنكيرانية" إلا وبدت لي مدرسة قائمة بذاتها، ستواصل التأثير في حياتنا السياسية مستقبلا، وستترسخ باعتبارها معيارا لما لا يجب أن يكون عليه رئيس الحكومة.
بنكيران كالبصل، كلما أزلت قشرة تحل محلها أخرى. بنكيران مجموعة من رؤساء الحكومة، وليس رئيسا واحدا فقط.
لقد أجهد الرجل نفسه أيما إجهاد، دون أن أجد، شخصيا، ما أذكره له عدا أن يكون مدرسة لتفادي الأخطاء في المستقبل.
لم يكسل، نعم، لم يتبلد نعم، لم يتلوث، نعم؛ لكن الرأسَ منه ظل خشَّاشا مُتوقدا للمنازلات تلو المنازلات.
لم تكن حكومة بنكيران، من زاوية المنجزات، تتطلب كل هذا الصخب. كان يكفي فيها رئيس من طينة الدكتور العثماني لتحقق الكثير.
يا أهل العدالة فكروا في هذا جيدا، حبكم للوطن يجب أن يَجُب مراهنتكم على الصخب السياسي الذي لا يشق لرجلكم فيه غبار.
الشعب المغربي هو غير الشعب الإيطالي الصاخب.
ما العمل الآن؛ هل تُعاد بنكرانيه؛ خُماسية كأداء تُرهِقنا صخبا، وإفقارا، وفسادا -وإن يكن ليس منه؛ في الوقت الذي ينام هو ملء جفونه عن شواردها؟
هل قدرُنا أن يخنقنا الفصل 47 من الدستور؛ وقد صيغ الدستورُ كله للحياة وليس للموت؟
في الرجل عشرة من الرؤساء، وجلده جلد فيل، ونحن نريد واحدا فقط، ليس فظا ولا غليظ القلب؛ وليس شتاما ولا متملقا.
دولتنا الفتية، ديمقراطيا، وليد يحبو؛ بحاجة إلى حضن محب ودافئ، وأياد ناعمة تُقوِّم وقفته وتقويها، وليس إلى من يُقعقع بالشنآن؛ يحسب كل صيحة عليه..
فهل لنا في حكومة وطنية مُستحقة لهذا الشعب الذي صبر كثيرا؟ هل لنا فيها، ونحن في عام الفيلين؟