يبدو واضحا للعيان، أنه كلما اتسع هامش الحرية، ازدادت المشاكل والمطبات المرتبطة بممارسة هذه الحرية، وتكاثر ما أسماه الكاتب الفرنسي "جيد" بالفعل المجاني، وقد ضرب لذلك مثلا في إحدى رواياته الرائعة، بشاب كان يسافر على متن قطار سريع، يربط بين باريس وروما؛ فشاهد امرأة عجوزا واقفة بباب إحدى العربات، وهي تستمتع بالمناظر الطبيعية والقطار مندفع بسرعة فائقة؛ فخطر للشاب أن يدفع السيدة إلى الخارج فماتت أشلاءً على جانب السكة، والشاب يعتقد أنه مارس حريته بفعله المجاني، بل الإجرامي هذا.. والمشكلة ههنا ليست في الحرية، بل في الفهم الخاطئ للحرية وهنا يكمن كل الإشكال مع الأسف الشديد..لقد ربط "سارتر" بين الحرية كممارسة ونضال مستمر لا يهدأ، والمسؤولية والالتزام، إلى درجة أن ذلك أفضى به إلى السقوط في ضرب من الجَبْرية، حين قال "حُكم علينا أن نعيش أحرارا..".. هكذا.. ففي بلادنا، هناك من فهم الحرية فهما خاطئا، واعتقد بأن الحرية، تخوّله أن يفعل ما يشاء، وأن يقول ما يشاء، وأن يقتحم حيوات الناس الخاصة متى وأنّى شاء، وأن يمس معتقدات، ومقدسات الغير كيفما شاء، وأن يدافع عن موبقات ومناكر هدّامة باسم الحرية.. وهناك من استباح أعراض الناس، وتاجر بها في سوق الخسائر، وهناك من استرخص حياة الغير، وصار يقتل بدم بارد، باسم الحرية، والحرية الحقيقية من ذلك براء..ولا أدل على ذلك، ما يحدث يوميا من قتل، وضرب، ونيل من أعراض الناس، ومن تحدٍّ سافر للقانون، والقيم، والأخلاق، وهو ما لم يكن يحدث قبل اتساع رقعة هذه الحرية.. فلو سألتَ أحدهم عن مفهوم الحرية في نظره، لأجابك بأنها الحرية وكفى، لأن اللفظة، رغم شيوعها، تبقى غامضة، والفرد يلفظها وهو يعتقد أنها واضحة؛ ونحن نعرف أن غموض الألفاظ، يؤدي إلى ممارسات خاطئة، على اعتبار أن اللغة هي التي توجه سلوك الناس في المجتمع، وتتحكم في تصرفاتهم، ولهذا قال جل الفلاسفة إن التقدم يبدأ من اللغة، لأنها وسيلة العلم، وموجِّهة السلوك.لنأخذ مثلا، أولئك الذين ينظّمون المظاهرات كل أسبوع، ويحشدون أناسا لا خلاق لهم، يحطّمون سيارات الغير في مسيراتهم، ويدمرون عربات الباعة المتجولين، ويضربون أبواب المتاجر، ويُجبرون آخرين على إقفال محلاتهم، ناهيك من ألفاظ ساقطة مخلة بالحياء، وخسائر مادية، وتوترات نفسية، وسيارات تأدت بشكل مباشر وهي لمواطنين بسطاء، مع العلم أن شركات التأمين لا تمنح تعويضات على مثل هذه الخسائر، كما أن المتضرر ليس له جهة يخاطبها، أو يلجأ إليها لاسترداد حقه.. هؤلاء الذين، ينظمون هذه المسيرات، يعتقدون أنهم يمارسون حريتهم في التظاهر، فيما أبرياء يتضررون بشكل مباشر، أو غير مباشر، من هذه الحرية التي يمارسها هؤلاء كل أسبوع.. لكن أين هي يا ترى حرية الآخر، وهو كذلك مواطن، متساوٍ معهم في الحقوق والواجبات، وممارسة الحريات، التي يضمنها دستور البلاد !؟ قد يطول بنا الحديث إذا ما أردنا استعراض مشاهد اجتماعية، في الشارع، والحومة، والزقاق، وكلها تمارس باسم الحرية، ويتضرر منها آخرون، ويتأدون منها، ويُحرَمون من ممارسة حريتهم، هم كذلك.. لقد سمعنا أساتذة، ووُعّاظا، وزعماء أحزاب، يتحدثون عن أمور كثيرة، مرتبطة بحياة الناس؛ ولكنهم، أبدا، لا يتطرقون لمسألة الحرية، وحدودها، وشروطها، والمسؤولية التي تستدعيها الحرية نفسها عند الممارسة.. ولقد آلمتنا مشاهد، ومظاهر مسيئة، وممارسات مشينة، تمارس باسم الحرية.. فما تراه من خلل في نشاط الإنسان العادي، انتقلت عدواه إلى كل الميادين باسم الحرية.
محمد فارس