لم أشأ مضايقة طلبة العلوم السياسية بكلية الحقوق أكدال بالرباط في أخذ الكلمة أثناء مناقشة حسن أوريد لكتابه "الإسلام السياسي في الميزان" بالإضافة إلى أن الحيز المخصص للحاضرين لا يتجاوز وضع سؤال بينما كانت لدي ملاحظات، وهي التي سأوردها هنا لكشف بعض الثغرات والاختلالات التي وقع فيها الباحث، وما كان ينبغي له ذلك بحكم الجمع بين صفتين، الباحث الأكاديمي والرجل الذي كان يوجد بالقرب من مربع القرار، بما يعني أنه ينبغي أن يكون متوفرا على قسط وافر من المعلومات.
أبدأ مناقشة الباحث من حيث انتهى، فقد خلص إلى أن الحركات الإسلامية، أو الإسلام السياسي، عرفت طفرتها الأولى مع هزيمة 1967، التي تعني هزيمة المشروع القومي، الذي كان يقوده جمال عبد الناصر، الرئيس المصري الأسبق. هذه الخلاصة مصادرة للتاريخ لأن الحركة الإسلامية وأساسا الإخوان المسلمين بمصر والأردن وسوريا كانوا على نوع من القوة لا يقل عن باقي التيارات وذلك منذ خمسينيات القرن الماضي. وثانيا لأن الموجة التي ضربت العالم العربي بعد هزيمة المشروع القومي هو ظهور اليسار الجديد كقوة ضاربة في العالم العربي.
بعد هزيمة 1967 غرفت حركة القوميين العرب انشقاقا أدى إلى ميلاد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أحد أقوى الأنوية في العالم العربي التي تبنت أفكار اليسار الجديد أو الجذري، وكان لهذا الحدث نتائج على مستوى الوطن العربي أثمرت ميلاد منظمات اليسار الراديكالي بالمغرب، ولم يكن لها أي تأثير على حركات الإسلام السياسي.
ما لم يقله الباحث أو لم يرد أن يقوله هو تلاقي مصلحة تيارين دينين في المشرق كانا يلتقيان في مواجهة الناصرية. الأول الإخوان المسلمون، الذين اصطدموا مع عبد الناصر بعدما كانوا حلفاءه في السابق، ولم يكن الخلاف حول الإيديولوجية بقدر ما كان حول الحكم، ويذهب باحثون إلى أن "معالم في الطريق" تمت كتابته بإيعاز من عبد الناصر كمانفستو للثورة في مواجهة الشيوعيين. والثاني هو تيار الوهابية الذي كان يعيش بحبوحة الطفرة النفطية. فالتقى التوجه الديني بالمال بمواجهة القومية فأعطوا دفعة قوية للحركة الإسلامية التي تجاوزت المشرق لتشمل العالم العربي وباقي الدول الإسلامية وحتى الغرب.
ثاني المطبات التي سقط فيها الباحث، بعد مطب القفزة أو الطفرة، هو الوقوف عند الحركات الإسلامية أو الإسلامي على اعتبار أنها مجرد فاعل. وما كان للمهتم بالعلوم السياسية أن يغيب عنه أن الفاعل يمكن أن يتحول إلى أداة والأداة يمكن أن تتحول إلى فاعل. وكمثال على الثانية، وسنعود للأولى، هو تنظيم القاعدة الذي تأسس تحت بأمر أمريكي من أجل مواجهة الاتحاد السوفياتي، وكان الراعي هو السعودية التي تحولت بدورها إلى أداة في هذا الشأن.
لم يعرج الباحث لا من قريب ولا من بعيد عن انخراط التنظيمات الإسلامية في اللعبة الاستخباراتية الدولية قديما وحديثا. لقد كانت المخابرات الإنجليزية تلعب بجزيرة العرب من خلال احتضانها لتنظيم الإخوان الوهابي في القرن التاسع عشر، قبل أن تتلقف تنظيما آخر اسمه الإخوان المسلمون، وكشفت السلطات المصرية سنة 1954 بالوثائق عن وجود تنسيق إخواني إنجليزي. كما أن المخابرات البريطانية خصصت إذاعة خاصة من لندن سنة 1982 رهن إشارة الإخوان المسلمين بسوريا، الذين دخلوا في صراع مسلح مع الجيش السوري في حماة.
توجد العديد من المؤشرات على أن الإسلام السياسي أداة وظيفية في اللعبة الاستخباراتية الدولية. وتجلى هذا الأمر في موجة الربيع العربي. حيث تمكن الإخوان من الوصول إلى الحكم والحكومات عن طريق الدعم الغربي، وتمت صفقات أصبحت اليوم مكشوفة.
وأفهم من كلام أوريد أنه معجب بالتجربة التونسية وهي في الواقع دليل آخر على انخراط الإسلاميين في اللعبة الاستخباراتية، فراشد الغنوشي الذي قضى 20 سنة في منفاه اللندني غادر بعد الثورة ليس إلى تونس ولكن إلى أمريكا حيث ألقى خطابا في مقر منظمة الأيباك، ومباشرة بعدها طار إلى قطر راعية ربيع الإخوان.
وفي المغرب كشف معلومات كثيرة عن تواصل في حدود معينة بين الإسلاميين وأجهزة استخبارات دولية، من خلال لقاءات تتم تحت عناوين مختلفة بين قادة إسلاميين ومسؤولين في السفارات أو باحثين. وهل يستوعب الباحث كيف ساندت جماعة العدل والإحسان الثورة في ليبيا وهي ثورة حلف الناتو؟ ولا ينبغي أن ننسى أن الخط ظل مفتوح بين العدالة والتنمية وأنقرة وقطر دون أن ينقطع مع توفير فضاء إعلامي متيمز لهم والمعروف بمنظومة الجزيرة، وذهابهم إلى سوريا ولقاؤهم بجماعات إرهابية على الحدود التركية السورية واحتضانهم لكثير من عناصر إئتلاف اسطمبول.
عندما نكون أمام حركات هي فاعل في مستوى من المستويات وأداة في مستويات أخرى نحتاج إلى تدقيق النظر في مساراتها قصد استشراف مستقبلها، وإلا سنردد مثلهم أن العدالة والتنمية حزب سياسي ذو مرجعية إسلامية أو حزب براغماتي، وهذا ما خلص إليه أوريد، ولكن عدم المعرفة بالخلفيات الفقهية والعقدية لهؤلاء هي التي أوصلته إلى هذه الخلاصة، وإلا فإن ما يقوم به العدالة والتنمية لا يدخل في إطار توجه براغماتي وإنما توجه فقهي أسس له تقي الدين الهلالي يسمى "التدليس المحبوب".
وهل كان عبد الإله بنكيران، الأمين العام للعدالة والتنمية ورئيس الحكومة المعين، بعيدا عن اللعبة؟ ألم يكن هو ومن معه أداة وظيفية؟ ألم يساهم في استقطاب الشباب للجهاد الأفغاني رفقة عبد الكريم الخطيب؟ ألم يبعث رسالة إلى إدريس البصري للتعاون على محاربة الشيوعيين؟
أما فيما يخص تبني الدولة للدين، فقد استدعى الباحث مفهوما من علم الاجتماع السياسي، استحداث التقاليد، وأسقطه على المغرب دون تبيئته، ودون تحديد لمفهوم التقاليد، وهل الدين جزء منها أم فوقها؟ ففي إيران كان من أبرز مناهضي التغريب جلال آل أحمد في أربعينات القرن الماضي، وكان يدعو إلى القومية الفارسية ورفض الدين. فتجلي الدين في المجال العام في المغرب حاضر دائما ويختلف فقط منسوبه.
وسنقف مع الباحث عند قضيتين ما كان في وارد همنا أن نناقشها معه لو لم يوردهما كشاهدين رئيسيين على بروز سياسة دينية لدى الدولة عقب سنة 1995، ويتعلق الأمر باستصدار قانون تجريم الإفطار العلني في رمضان. أولا تجريم الإفطار العلني في رمضان ليس من التشريع الديني وإنما من "التعزير" أو ما يسمى اليوم التشريع لحماية المجتمع، وثانيا أن هذا القانون صدر سنة 1912 على عهد الحماية الفرنسية، حيث أراد الماريشال ليوطي تجنيب المعمرين الفرنسيين غضب المغاربة.
والأمر الثاني يتعلق برفع المصاحف في المسيرة الخضراء، التي أحالها الباحث على حرب صفين. المقارنة هنا تنم عن عدم معرفة واضحة بالتاريخ الإسلامي وبتاريخ المغرب. المغاربة ورثوا تدينا قريبا ممن كان في المعسكر الذي لا يحمل المصاحف، ولكن المصاحف كانت مرفوقة إلى جنب الرايات المغربية وصورة الملك الحسن الثاني، مما يلخص شعار "الله، الوطن، الملك".
ألتقي مع الباحث في قوله إن العدالة والتنمية شيء مختلف. لكن مختلف بالنسبة إلي تعني أنه جزء من منظومة الإخوان المسلمين وأنه يتحرك كجزء من بنية التوحيد والإصلاح لهذا لم تؤثر عليه قيادة الحكومة كما أثرت على الاتحاد الاشتراكي.
وآخر ملاحظة أختم بها تتعلق بصفة حسن أوريد، التي كادت أن تندثر. فالرجل كان ضمن محيط ولي العهد وضمن محيط الملك بعد تولي محمد السادس للحكم وكان ناطقا رسميا باسم القصر الملكي ومؤرخا للمملكة. هذا الوجود يمنح صاحبه كما كبيرا من المعلومات تفيد في التحليل، لكن الباحث اختار التحليل من خلال فرضيات قد تكون حقيقية أو غير حقيقية.