في شهر مارس من السنة الماضية، انتفضت الحكومة المغربية ضد الأمين العام للأمم المتحدة بان كيمون، وقد أصدرت وقتها بلاغا شديد اللهجة أدانت من خلاله ما سمته “الانزلاقات اللفظية وفرض الأمر الواقع والمحاباة غير المبررة للأمين العام الأممي السيد بان كيمون خلال زيارته الأخيرة للمنطقة”، وقتها قالت الحكومة، أنها سجلت بذهول كبير استعمال عبارة “احتلال” لوصف استرجاع المغرب لوحدته الترابية، الأمر الذي يتناقض بشدة مع القاموس الذي دأبت الأمم المتحدة على استخدامه في ما يتعلق بالصحراء المغربية، وأن “استعمال هذا التوصيف ليس له سند سياسي أو قانوني ويشكل إهانة بالنسبة للحكومة وللشعب المغربيين”..
قام بان كيمون في وقت سابق، بزيارة استفزازية، لمنطقة بير لحلو، وتم استقباله استقبالا رسميا، أي أنه اعترف من حيث الشكل بوجود دولة البوليساريو، ولم يقف عند هذا الحد، بل أنه أعطاهم الشرعية بقوله: إن المغرب “بلد محتل”، والكل يعرف أن جملة مثل هذه، كافية لتضفي الشرعية القانونية لكل هجوم للبوليساريو على الجنود المغاربة في الحدود، فالدفاع عن الشرعية، حق معترف به دوليا(..)، والشرعية هنا غير موجودة في أرض الواقع لكنها موجودة في كلام بان كيمون.
قد يقول قائل، ولكن المتحدث الرسمي باسم بان كيمون، استيفان دوغريك، اعتذر بالنيابة عن رئيسه في العمل للمغرب، عندما قال: “إن الأمين العام للأمم المتحدة بان كيمون يأسف لتداعيات سوء فهم استخدام كلمة (احتلال) للتعبير عن مشاعره الشخصية إزاء محنة اللاجئين الصحراويين في الجزائر”، لافتا أنها “جاءت عفوية ولم تكن متعمدة بالمرة..”، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، منذ متى كان لأمين عام الحق في التعبير عن مشاعره الشخصية، ولماذا اتجهت هذه المشاعر إلى دعم البوليساريو وليس العكس، أليس المفروض أن تكون تصرفات الأمين العام رهينة لضوابط وآليات العمل داخل نطاق الأمم المتحدة؟ الحقيقة أن تصريحات بان كيمون تعد تآمرا واضحا على المغرب، وقد فعل ما في وسعه ليزور أيضا بعثة الأمم المتحدة في العيون، لكن المغرب رفض استقباله على أرض العيون ورفضوا منح الترخيص لطائرته بالنزول، بل إن التصعيد المغربي وصل إلى حد طرد بعثة “المينورسو” من الصحراء، قبل أن تعود المياه لمجاريها.
منذ زيارة بان كيمون للبوليساريو ولمنطقة بير لحلو التي تقع خلف الجدار الأمني، والتي تسميها البوليساريو بالمناطق المحررة(..)، رغم كونها غير ذات قيمة ميدانية، الأمر الذي تؤكده الزيارات الملكية الناجحة للصحراء(..)، ارتفعت حدة مناوشات الجبهة الانفصالية، بل إن الجرأة وصلت هذه الأيام، إلى حد التطاول على السيادة المغربية، عبر ترويج صور المليشيات المكونة من بضعة أفراد على الشاطئ الأطلسي، قرب منطقة الكركرات التي قام المغرب بتمشيطها، ووضع حدا لنشاط تهريب السلع والسيارات قربها في منطقة “قندهار”(..).
التفسير الوحيد الموجود حتى الآن لاستفزازات الجبهة، هو كون مليشياتها تحاول جر الجيش المغربي إلى معركة تعرف مسبقا أنها ستخسرها، فمجرد متتبع بسيط يمكنه أن يعرف أن أقل تحرك من الجيش الملكي في الصحراء، قد يؤدي إلى إبادة كل مليشيات البوليساريو في المنطقة الشاطئية، والغرض هو التظاهر بأن المغرب بصدد الهجوم، بينما تتكلف أبواق الدعاية الحقوقية العالمية، الموضوعة على أهبة استعداد في المحافل الدولية للترويج بإحكام لخطاب يجعل “البوليساريو” بمثابة دولة الكويت التي تعرضت للغزو من طرف الرئيس العراقي صدام حسين في 2 غشت 1990.. اعتبار البوليساريو بمثابة كويت، واعتبار المغرب بمثابة دولة العراق، هو الكلام الذي تروجه رئيسة جمعية “روبرت كيندي للعدالة وحقوق الإنسان” ورئيسة المجلس والقيادية في منظمة العفو الدولية في أمريكا، حسب مصادر “الأسبوع”(..).
مؤشرات بعثرة الأوراق في المغرب لا تقتصر فقط على جانب استفزاز الوحدة الترابية، كما أن استعمال اسم دولة الكويت في هذه المخططات، لا يمس علاقة الاحترام بين دولة المغرب ودولة الكويت، وباقي دول الخليج(..)، لكن المخطط الذي يطبخ على الأطراف المسببة للفوضى في العالم ضمن تشكيلة الأمم المتحدة، وامتداداتها في المغرب(..)، يتضمن أيضا بندا لخلق الأزمة السياسية، عن طريق الترويج والدعاية لحكومة وحدة وطنية، ولمصالحة مزعومة، من سيتصالح مع من؟ ولمصلحة من؟ ومنذ متى كانت الانتخابات تتطلب المصالحة بعد التصويت؟ ما فائدة التصويت إذا لم ينته بانتصار طرف على آخر؟
يقول إلياس العماري، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، وأحد أكبر الخاسرين في انتخابات 7 أكتوبر الماضي، وواحد من الطامحين لضمان مقعد في الحكومة الحالية التي تجري المشاورات بشأنها، أي أنه أحد الطامعين في العرقلة من الداخل، لكن لصالح من؟ هذا هو السؤال المطروح: ((نستشرف اليوم، كحزب وطني فتي ومناضل، خطوات ومسارات مصالحاتنا الرحبة، بإرادتنا الواثقة وأيادينا الممدودة للجميع، لنتخلص من خصوماتنا الجوفاء وأحقادنا العمياء، ونتقدم سويا نحو الاعتراف المتبادل ببعضنا البعض، واضعين مصلحة الوطن وكرامة الشعب على رأس الأولويات، وآخذين الصالح العام المشترك مأخذ جد ومسؤولية، وحاملين في قلوبنا حب جذور وطننا المغرب، المدثرة بملاحم وشجاعة أجدادنا الأبطال في حفظ وحدة ومجد وإشعاع الكيان الوطني المغربي الشامخ في التاريخ)).
إن الذي يقرأ كلام العماري، يعتقد أن المغرب خرج من حرب وليس مجرد عملية انتخابية بسيطة مؤطرة بالدستور، وانظروا لغرابة المواقف عند حزب الأصالة والمعاصرة، فهذا الحزب الذي يطلب المصالحة، أي يطلب الدخول للحكومة، هو نفسه الذي يروج اليوم لمطالب الإصلاح الدستوري؟ من هنا يطرح سؤال، لماذا شارك هذا الحزب في الانتخابات التي تجد سندها في دستور 2011؟ لماذا لم يقاطعها(..)؟
ما كل شيء يقال، لكن الحر بـ”الغمزة” والإشارة، والإشارة جاءت فعلا في الخطاب الملكي، خلال افتتاح الدورة البرلمانية التشريعية، حيث أكد الملك “على تمسكه بمبدإ التعددية الحزبية في البلاد، داعيا الجميع للتحلي بروح الوطنية والمسؤولية من أجل رفع جودة الخدمات التي تقدم للمواطنين.. وقال الملك محمد السادس -في خطاب ألقاه خلال افتتاح السنة التشريعية الجديدة في البرلمان- “إن الهدف الأسمى لمؤسسات البرلمان وباقي مؤسسات الدولة هو خدمة المواطن، ولا معنى لوجودها إذا كانت عاجزة عن تحقيق هذا الهدف، كما انتقد الملك السياسيين الذين يستغلون السلطة التي فوضهم إياها المواطنون في خدمة مصالحهم الشخصية والحزبية واستثمار ذلك في الانتخابات، معتبرا ذلك تنكرا لقيم العمل السياسي النبيل”.
لا تقف الرغبة في خلق ارتباك سياسي في المغرب عند حدود الحكومة، والتشويش على المشاورات، بل إن هناك عدة أطراف تحاول اختلاق أزمة دينية من خلال اختلاق حادثة للإساءة للرسول وتضخيم رد الفعل، وبالتالي تصوير المجتمع كمجتمع منقسم إلى فئة مع الرسول وفئة ضده، ويدخل في هذا القبيل أيضا، افتعال مسيرة ضد “أخونة الدولة” في عز الحملة الانتخابية، وقد كان الغرض من المسيرة، استفزاز جمهور المصوتين على البيجيدي في الدار البيضاء، لحسن الحظ، أن رئيس الحكومة وإخوانه اعتبروا المسيرة وكأنها لم تكن، وإلا لكنا قد شاهدنا مشاهد أخرى في حالة اصطدام طرفين متناقضين(..).
لحسن الحظ أن الدعوة التي روج لها إلياس العماري وأصحابه، بعد الهزيمة الانتخابية لم تلق صداها، وإلا لكان المغرب قد دخل منذ الآن دوامة “شلل المؤسسات”، علما أن فكرة المصالحة تظل عصية على التصديق لأن الغرض منها هو تأسيس حكومة لا تحكم.. اسمحوا لي رغم عواطفي الساذجة تلك، أن أحدثكم بهواجس نفسي الأمارة بالسوء التي تجعل شكنا في مصداقية خطابكم شكا مذهبيا، وليس شكا على غرار شك ديكارت المنهجي، من سيصدق أن من قال منذ أول يوم وما فتئ يقول بأنه جاء لمحاربة الإسلاميين من أجل الإسلام؟ قد أصبح فجأة مفكرا ملهما داعيا للمصالحة، متعاليا على صراعات عصره وزمانه مثل الدكتور، عابد الجابري الذي دعا بحدس مبكر إلى أن الكتلة التاريخية، معبر ضروري نحو الانتقال الديمقراطي؟ من يصدق، وقد كان هو وصناديد حزبه، يعتبر حزب العدالة والتنمية جزءً من مؤامرة دولية ظلامية إخوانية تريد أن تعصف بمكاسب المغرب الحقوقية والتنويرية؟ من يمكنه أن يصدق لحظة واحدة أن مهندسي مسيرة “أخونة الدولة والمجتمع” التي خرجت لمواجهة “التوحد” وإخراج “بن كيران” من صحرائنا؟ يمكن أن يتحولوا فجأة إلى دعاة للوئام والمصالحة الوطنية!!؟ كيف يمكن تصديق ذلك والإساءات التي صدرت منهم في حق الوطن والثوابت ومسار البناء الديمقراطي لم تندمل جروحها، والإساءات للأحزاب الوطنية، لغة التهديد والوعيد بالملفات والمتابعات الضريبية، والسطو على أعيان الأحزاب واللعب في حديقتهم الخلفية الانتخابية، والإساءة إلى صورة الإدارة الترابية الوطنية وتوريط بعض عناصرها في سلوكات مضرة بالمغرب وسمعته ونموذجه الديمقراطي؟
جميل أن تلقننا السيد إلياس أو من كتب لك هذه القصيدة الغزلية، دروسا وتلقننا مواعظ في الوحدة والمواطنة المشتركة بين بنات وأبناء المغرب، وفي مفاتن ومحاسن المصالحة التاريخية الشجاعة التي نحن بصددها! “لله ذرك ولا فُض فوك” وأنت تقف فينا معلما ومرشدا وكأنك قائد منتصر فاتح يعفو عمن أساء إليه ويقول: “ما تظنون أني فاعل بكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء! أنا أخ كريم وابن أخ كريم” (هكذا تحدث محمد يتيم في رسالته إلى إلياس العماري).
إعداد: سعيد الريحاني