بدايةً أتطرق هنا الى الفكر الذكوري العربي وتصوره الوهمي أن المرأة كلها "عورة" أو "سَوءة" منذ القدم. ورغم الجهود المبذولة في تغيير هذا الفكر، ما زال يُنظر إلى المرأة كـ "عورة"، بل تم تعزيز هذا التصور بتأويلات خاطئة تم إلصاقها بالدين وشُدد عليها هذا الحصار الفكري لينزلها درجات كبيرة أسوأ مما كانت عليه في عصور الظلام. وكل هذا باسم الدين واحترام العادات والتقاليد، وتطبيق نظريات خاطئة ترى أن المرأة ضعيفة وناقصة عقل ودين.
وأود تحليل هذا الفكر والتصور الدوني للأنثى، سواء عند الرجل أو المرأة، لأن المشكلة لا تتوقف عند هذا النطاق وليست مجرد مسألة أزياء وملبس؛ لأن لكل مجتمع عاداته ومفاهيمه الاجتماعية، سواءً عند الأنثى أو الذكر، وهذه العادات لا علاقة لها بالضرورة بالدين، وتعرف تغييراً وتطوراً عضوياً مع مرور الزمان وتعاقب الأجيال، كما أنها ليست مقيدة بمفاهيم الحرام والحلال.
لغويا "العورة" تعني "الخلل"، ودينياً ستر العورة هو ستر ما لا يجب إظهاره من أعضاء حساسة في الجسم، وقانونيا الكشف عن العورة هو الكشف وسط العموم على مقدمة أو مؤخرة الأنثى والذكر أو الثدي عند المرأة، وهذا نجده في أعراف الأغلبية الساحقة من المجتمعات، ويعاقب القانون على عدم احترام هذه القواعد الاجتماعية. ولما يُكشف عن هذه الأجزاء الجسمية وسط الجموع، يسمى هذا الجُرم بـ"خدش الحياء العام"، ويعاقب عليه.
لكن المشكلة تحدث حينما تمتزج المفاهيم الخاطئة ذات الوجه الديني بالنظام العام لمجتمع ما ويُفرض على النساء ارتداء نوع ما من اللباس بطرق تعسفية تضرب عرض الحائط بكرامتهن وحريتهن ومساواتهن مع الذكور؛ بحيث يتم اعتبار المرأة مجرد "عورة". وهذا يخالف تماماً حق المرأة في اختيار ما يناسبها من الأزياء، سواءً باعتبارات شخصية أو دينية.
فالخلل أو "العورة" هو اعتبار المرأة فتنة. وحتى لا تفتن الذكور يفرض عليها ارتداء زي معين، ولكن لماذا نفترض أن المرآة فتنة وليس الرجل فتنة بالنسبة للأنثى علماً أن المرأة يمكن أن تفتتن كذلك برجل مليح الوجه أو صاحب بنية جسمانية قوية أو ذي لياقة ولباقة، كما تفتن الكثير من الفتيات ويعجبن بالمغنيين والممثلين في الأعمال الدرامية، كالمسلسلات البرازيلية والتركية مثلاً. فلماذا لا يجب اعتبار الرجل فتنة وعورة ولماذا لا يفرض عليه ارتداء أزياء معينة تستر مفاتنه وتخفي وجهه عن المرأة؟
فما هي أسباب هذا الخلل الفكري المتمثل في اعتبار المرأة عورة، أو النظر إليها بأكملها على أنها "سَوءة" أو "فتنة"؟
1-التربية:
التربية السائدة عند العرب تعتبر الذكر أعلى درجة من الأنثى؛ بحيث إنها تلزمها بخدمة أخيها ومن بعده تكون خادمة لزوجها، كما أن هذه التربية تعتبر الأنثى مصدر عار محتمل لـعائلتها، وتختزل شرفها في بكارتها، وكان العرب يرددون هذا المثل: "نِعمَ الصَّهر القبر"، وكانوا يدفنون الأنثى عند ولادتها. وهذا ما نراه حاليا بدفنها داخل الألبسة التي تشبه القبور المتحركة.
فالتربية هي التي "جنَّست" جسم الفتاة وجعلت منه فتنة ومجرد مركز جاذبية جنسية. ونرى أن التيارات الإعلامية الحالية وعوالم الدعاية والإشهار شرعت أيضاً في "تَجنيس" جسم الذكر بمواصفات معينة بالكيفية نفسها التي سبق أن تم بها تسليع جسد المرأة وتحويلها إلى بضاعة وأداة للرواج.
فلو غيرت التربية هذا المفهوم وأساليبها وطبقت قيم المساواة بين الذكر والأنثى ورسخت في ذهنيهما أن العفة والقداسة مفروضة عليهما معاً على حد سواء، وأن شكل اللباس ونوعية الأزياء هي قواعد اجتماعية ومناخية يجب مراعاتها لدى الاثنين دون التركيز على جسد الأنثى ودون "تَجنيسه"، لتحررنا من اعتبار المرأة "عورة" وحصلنا على التوازن الاجتماعي المنشود ومحينا الظلم السائد في التعامل مع الجنسين، وبالتالي لفتحنا باب الشراكة الكلية في بناء المجتمع البشري، ولحصلنا على سلمه؛ لأن السلم من المحال أن يتحقق ما دام هناك عدم مساواة بين الجنسين، ولا سبيل إليه طالما بقي الظلم والجور في الممارسات اليومية ضد المرآة.
2-الضعف الجنسي لدى الذكر:
علمياً، الطبيعة الفيزيولوجية تجعل من الأنثى أقوى بكثير من الذكر؛ بحيث إنها بإمكانها تكرار الجماع الجنسي الواحد تلوى الآخر مباشرة ولمرات عديدة، أما الذكر فليس بإمكانه فعل الشيء نفسه؛ إذ لابد له من فترات راحة فيزيولوجية بين عمليتين من الجماع تتراوح بين عدة دقائق وفترات طويلة من الزمان تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من يوم.
فلما لاحظ الذكر هذا الضعف منذ قديم الزمان، عمل على تحقيق تفوق من خلال تطوير قدراته العضلية في مجالات الصيد والحروب والفلاحة والرياضة ليبرهن للأنثى عن ضعفها في هذه الميادين، وتدريجياً من خلال منظومة المجتمعات الأبوية فرض عليها الانحصار في المنزل وتربية الأطفال، بينما احتكر العديد من المجالات وسمح لنفسه بتعدد الزوجات ليظهر قوته الفحولية المتوهمة.
وخوفا من القوة الجنسية للمرأة وتفوقها الفكري، تصور الذكر بعقليته الذكورية المحدودة أن المرأة ليس لها إحساس جنسي ولا جاذبية جنسية نحو الذكر، وهي فقط مجرد مصنع للأطفال وخادمة للقيام بالأعمال المنزلية وليس لها أدوار أخرى سوى تلبية كل شهواته الجنسية، وفي الوقت نفسه أدرك أن التنافس الذكوري جعل منها مرغوبة جنسيا من كل الذكور كغنيمة من الغنائم يمكن افتراسها في أوقات الحرب والسلم.
ولهذا تفنن في فرض القيود عليها بهدف تحويلها إلى آمة لسلطته لا تخرج ولا تتصرف في شيء إلا بأمره، وصارت النساء في المجتمعات الذكورية الأبوية تحت وصاية المحارم؛ الأب والجد والعم والخال والأخ، ثم سلطة الطاعة الزوجية، وفي أسوأ الأحوال تحت الاستعباد القصري في مجتمعات سادت فيها العبودية والرق بمختلف أشكالها. وفي تلك الأجواء تم فرض أزياء مظلمة لتمويه أجساد النساء وتقييد حركتهن.
3-احتكار الدين لدى الرجل وتفسيره وفق الأهواء الذكورية:
دائما بروح السيطرة الذكورية على الأنثى والرغبة الشرسة في حرمانها من المشاركة في الحياة العامة حتى لا تظهر قدراتها الكامنة التي تهدد سطوته، لجأ الذكر إلى اعتبار الأنثى ناقصة عقل، وعمل على إقصائها من المشاركة في تسيير الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية، كما حرمها من التعليم وجعل العلوم والمعارف حكراً على الذكور.
وبما أن الدين كان يساهم في تحسين ورفع مرتبة المرأة وتزويدها بقدر من الحقوق، شرع الذكر في احتكار الدين وتأويله حسب حاجياته ووفق مزاجه، وحرم على الأنثى ما لم يحرمه الدين أصلاً. وهكذا أصبح الحقل الديني تحت السيطرة الذكورية وما على الأنثى سوى الطاعة.
والحقيقة الجوهرية أن الدين هو نور للإنسانية جمعاء، وأن الله خلق الأنثى كما خلق الذكر وجعلهما شريكين لبناء المجتمع الإنساني، وجعلهما كجناحي الطائر، ولكي يطير هذا الطائر ويعلو في سماء الازدهار والرخاء لابد لجناحيه أن يكونا متناغمين ومتوازنين، وليس بإمكان أي مجتمع أن يصل إلى تحقيق الاستقرار والسلم وبلوغ الازدهار والرخاء إذا لم يتحقق أولاً الإنصاف والعدل بين الذكور والإناث.
وقد حان الأوان للخروج من هذه المفاهيم البالية المدمرة التي تصور المرأة كـ "عورة" وتدفنها وهي حية في قبور الجهالة والتعسف الذي يعرق تقدم أممنا وشعوبنا.
*طبيب ومحلل نفساني