عبّرت فئات عريضة من المغاربة عن جام غضبها إثر الحادث المأساوي الذي أودى بحياة محسن فكري، نتيجة تصرفات تعسفية غير محسوبة العواقب لبعض المسؤولين.
وإزاء صمت رهيب لرئيس الحكومة وقادة الأحزاب، سارع الملك محمد السادس، باعتباره الساهر على أمن الدولة واستمراريتها، إلى تقديم ضمانات إلى عائلة الضحية حملها وزير الداخلية بأنه "سيتم التعامل مع المتورطين في هذا الحادث من دون شفقة".
بمقابل كل هذا، سارع العديد ممن يتحينون الفرص إلى استغلال موت محسن فكري عبر ركوب موجة الغضب الشعبي لأجل تحقيق أهداف سياسية غير معلنة. لذلك، وبالرغم من الغليان الذي شهدته بعض المدن المغربية، ينبغي التحلي بنوع من اليقظة وعدم إخراج الحادث عن إطاره لنوصد الباب أمام المتربصين الطامحين إلى تسييسه.
وأي استباق للأحداث وخروج باستنتاجات سريعة غير مبنية على أدلة هو غير ذي فائدة ولا يخدم القضية. فانتظار نتائج التحقيقات التي باشرتها الدولة بإشراف من ملك البلاد هو القناة الوحيدة لتصريف الجزاءات المناسبة لكل من أدخل البلاد بقصد أو من دون قصد في أزمة مجانية وحرم واحدا من مواطنيها من حقه الأسمى: حق الحياة.
لكن في انتظار ذلك، يجب على كل مكونات الدولة أن تتفاعل بايجابية مع هذا الحادث المؤلم، لتعيد ترتيب المشهد من خلال اتخاذها تدابير جدية تعيد ثقة المواطنين التي اهتزت في مؤسسات دولتهم وفي قدرتها على ضمان واحترام حقوقهم.
وهذا لا يمنع من القول إن الشطط في استعمال السلطة واقع تعيشه كل دول العالم، وحتى الديمقراطيات العريقة كالولايات المتحدة الأمريكية. ومن أمثلته، قتل الشرطة الأمريكية لـ939 شخصا في النصف الأول فقط من هذا العام بسبب الاستخدام المفرط للقوة ضد مواطنين عزل غير مسلحين في أحيان كثيرة وأغلبهم أمريكيون من أصول إفريقية. ففي الأسبوع الماضي، هاجمت الشرطة الأمريكية في ولاية ماساشوست أربعة عشر مغربيا يعيشون في إحدى البنايات بناءً على ادعاء واه من أحد سكان الحي. وقامت الشرطة بتعنيفهم واستعمال القنابل المسيلة للدموع ضدهم كما لو كانوا مجرمين، بينما كانوا نائمين يستعدون لبداية يوم جديد.
العنف و"الحكرة" التي تمارسها قوات الأمن ليس خاصية مغربية؛ لكن في الوقت نفسه ليس من المقبول أن تتحول إلى قاعدة في كل تدخل أمني. وفي هذه النقطة بالذات، ينتظر المغاربة عقوبات زجرية وصارمة ضد كل المتورطين في وفاة المرحوم محسن فكري، لكي نحمي المواطن مستقبلا من كل امتهان لكرامته وكل دوس على حقوقه.
ضرورة تفادي إعطاء الفرصة للمتربصين
إنه من الطبيعي أن تقودنا الصور التي شاهدناها بخصوص المرحوم محسن فكري إلى التعبير عن الغضب والسخط على المسؤولين؛ غير أن هذا الغضب ينبغي ألا يجعل المرء ينساق أمام محاولات البعض للركوب على الأحداث واستغلالها لأهداف سياسية خفية وتحقيق أجندات خارجية. فعلى المغاربة تفادي الوقوع في الانزلاقات وعدم إعطاء الفرصة للمتربصين بالبلد الفرصة لبث الفتنة فيها وصب الزيت علة النار.
الطريقة السلمية والعفوية التي احتج من خلالها المغاربة يوم الأحد المنصرم على الموت المفجع لمحسن فكري توحي بأنهم فهموا اللعبة ولا يريدون إعطاء الفاجعة أي طابع سياسي. فعلى المرء ألا ينسى أن المتربصين بهذا البلد وباستقراره ينتظرون فرصا مثل هذه للركوب عليها واستغلالها وبث الفتنة في البلد والزج بها إلى المجهول. المغرب ما زال يحتاج إلى عمل جد جبار لتحسين ظروف عيش المواطنين، خاصةً في المناطق النائية، ومحاربة العقليات القديمة. وعلى المغاربة في الداخل أو الخارج التحلي باليقظة والمسؤولية لمحاربة كل مظاهر الفساد والشطط في استعمال السلطة في نطاق القانون، ومحاربة الرشوة وكذلك الحكرة بين بعضنا البعض.
صحيح أن المغرب ليس جنة الله في أرضه، وما زال يحتاج إلى سنوات وربما لعقود لوضعه في مصاف الدول التي ينعم فيها مواطنيها بكل ظروف العيش الكريم وتكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون. ولكن بالرغم من كل الصعاب التي يواجهها البلد، وبالرغم من عدم توفرها على أي موارد طبيعية مثل العديد من دول الجوار، فالمغرب الحمد لله ينعم بنعمة الاستقرار في منطقة يتربص بها الجميع ويسعى إلى تشتيتها، وعلى كل مغربي أن يكون على وعي بذلك.
إن السؤال المطروح الآن هو: كيف تسرب وانتشر هاشتاج "طحن مو" على الفايسبوك بسرعة قياسية لحظات بعد الحادث؟ ومن قام بذلك؟ الكل صدق هذه الرواية بأنها تعكس حقيقة ما وقع دون انتظار التأكد من ذلك أو طرح السؤال على شهود عيان؛ لكن ما رشح من تصريحات متقاطعة يستوجب الحذر، فلا أحد أكد سماع هذه العبارة الخطيرة التي أججت الغضب وسمحت للبعض باتخاذها ذريعة لاستغلال الفاجعة لأغراض إيديولوجية أو أوهام سياسية. تماما كما تم الترويج لمقاطع فيديو عبر الفضاء الأزرق، نسبت زورا لاحتجاجات الحسيمة، على أنها انفلات أمني و"ثورة" وهي في الواقع مقاطع تعود إلى تظاهرات سابقة خصوصا من أحداث فبراير 2011.
الجناة يجب أن يعاقبوا والحق يجب أن يعود إلى أهله (عائلة الشهيد المكلومة)، مع ضمانات كافية لعدم تكرار هكذا ممارسات، قطعا للطريق على الواهمين بنزاعات عرقية أو قبلية أو إيديولوجية لا علاقة لها بالحادث.
والخوف أو الحلم بالسيناريو السوري هو وهم أكبر؛ فالمغاربة الذين عاشوا سنوات الرصاص لم يختصروا مسار ديمقراطيتهم ولم يسرقوها بل سقوها بدماء شهدائهم ونضالاتهم لأزيد من خمسين سنة، لم يتوقف المسار يوما، نسير ببطء لكن لا نخطأ المسير، نواصل بوعي وثبات في بناء بلدنا وديمقراطيتنا دون السقوط في فخ أي أجندة أجنبية.
ضرورة استخلاص الدروس والقطيعة مع ممارسات الماضي
ومن جهة أخرى، يجب على الحكومة والمسؤولين والأحزاب السياسية أن تعي بأن مغاربة اليوم ليسوا هم مغاربة الأمس، وأنهم غير مستعدين لقبول الممارسات التعسفية نفسها التي كانت تمارس عليهم في الماضي. فمغرب 2016 وعالم اليوم ليس هو عالم الثمانينيات والتسعينيات، ولا يمكن الآن طمس أو إسكات أي شيء. فكل حدث يقع في أبعد منطقة في العالم يصل صداه في رمشة عين إلى كل مناطق العالم، ويمكن أن تنتج عنه عواقب وخيمة. فكثيرا ما وقعت مثل هذه الأحداث في القرن الماضي، ولم يصل صداها إلى المواطن بسبب التعتيم الإعلامي وغياب وسائل التواصل الاجتماعي؛ غير أن هذه الممارسات، وفي حضور التكنولوجيات الحديثة، لم تعد ممكنة ولم يعد بإمكان المواطنين السكوت عن الظلم والشطط في استعمال السلطة من قبل مَن مِن المفروض أن يحموهم وأن يوفروا لهم ظروف العيش الكريم. فهذا الحادث يأتي ستة أشهر بعدما أقدمت "مي فتحية" على الانتحار احتجاجاً على حجز بضاعتها من لدن قوات الأمن في القنيطرة.
وإذا كان حادث القنيطرة لم يفض إلى المستوى نفسه من الاحتجاجات، فإن حادث الحسيمة جاء ليذكر المسؤولين بأن المواطنين يرفضون الممارسات التعسفية لفئة مهمة من موظفي الدولة. وبالتالي، ينبغي استخلاص الدروس وإعطاء إشارات واضحة للمواطنين بأن الدولة والإدارات العمومية ستعمل بجد من أجل الحد من الممارسات التعسفية التي تضر بالمواطنين وتنقص من كرامتهم. كما على الدولة أن تعمل على تحسين ظروف الفئات الهشة التي تعيش في ظروف اجتماعية مزرية وأن تعطيها ضمانات بأن لديها مؤسسات تحميها من التعسف وتضمن لها سيادة وسمو القانون.
حان الوقت لإعادة النظر في قيم المغاربة
بالإضافة إلى ذلك، ما وقع في الحسيمة يجب أن يسائل الجميع عن تردي القيم الاجتماعية في المغرب. فيجب ألا ينسى المرء أن ثقافة "الحكرة" ليست حكراً على رجال السلطة، بل هي ممارسة تقوم بها فئة كبيرة من المواطنين يومياً وربما بشكل لا شعوري. فحينما يذهب أي أحد إلى المقاطعة ويعطي رشوة للمقدم أو رجل السلطة من أجل قضاء غرضه بسرعة فهو يمارس "الحكرة" على المواطن الذي لا سبيل له سوى الانتظار في الصف. وحينما يذهب إلى أي مصلحة إدارية لقضاء أي غرض ولا يحترم الناس الذي ينتظرون في الصف منذ مدة ولا يكترث بهم لأن أحد الموظفين صديقه وسوف يعطيه الأسبقية، فهو يمارس "الحكرة" على مواطنين مثله. وحينما لا يحترم قانون السير ويعطي الرشوة لرجال الأمن، فهو يمارس "الحكرة" على الآخرين وكذلك ضد الدولة ويصادر حقها في القيام بواجبها المتمثل في تنفيذ القانون على كل المواطنين. وإذا تعود المرء على هذه الممارسات وسلم بأنها عادية، فمن الطبيعي أن يمارسها بشكل أكبر لو كان لديه منصب سلطة.
ومن أجل تحقيق سمو القانون فوق كل شخص، يجب محاربة كل الممارسات التي تحول تطبيقه، وعلى رأسها الرشوة. إن المغرب كدولة وكيان هو نتيجة لثقافة وتصرفات وممارسات كل مكوناته. وبالتالي، فينبغي على الدولة أن تستخلص العبرة من هذا الحادث ومحاربة جيوب المقاومة التي توجد في صفوفها والتي تحول دون القطيعة مع ممارسات الماضي. كما ينبغي على المواطنين أن يسهروا بأنفسهم على احترام القانون ومساعدة الدولة على تطبيقه. كما ينبغي محاربة انفصام الشخصية الذي تعاني منه شرائح كبيرة من المغاربة، إذ لا يمكن مطالبة الدولة بتطبيق القانون في الوقت الذي لا يحترمه المواطن في حياته اليومية ويقوم بممارسات خارجة عن نطاق القانون.
*مستشار دبلوماسي ورئيس تحرير Morocco World News