لو لم يغضب الشعب المغربي، قاطبة، لجُمعة الحسيمة الحمراء، لقَتلنا اليأسُ مرتين: من إدارة استعصت على الإصلاح، ولو ملكيا؛ ومن شعب ميِّت، خارج عن دَيْدن المغاربة في المُلمات الكبرى.
لم يُجنبنا القدرُ، ولا رادَّ لقضاء الله، ما وقع لشهيد الوطن حسن فكري، وليس الريف فقط؛ لكنْ جنَّبنا- كما جنب أسلافَنا- أن نكون شعبا لا هِمة له ولا ذمة، ولا كرامة ولا غيرة، ولا حِسا مدنيا، ولا كِيانا حقوقيا.
لن تعدم أرحامُ المغربيات، مستقبلا، أن تلد أبطالا في عنفوان فكري واتقاده، وهو يدافع عن رزقه، وحقوقه، بالأظافر وبالروح أفاضها بين يدي إدارة شرسة؛ لكن من أين لنا ميلاد وطن العز والسؤدد، الذي ينشده الجميع، إن مات كل بنيه صرعى الجبن والمهانة؟
لولا وجود شعب يغضب لما زَينتْ نواصي الوطن ثورةُ الملك والشعب، حينما تطاول الاستعمار على الجالس على العرش. ونحمد الله أن المغرب، وقتها، لم يكن فيه رجل اسمه بنكيران؛ وإلا لأمسك جنده، وولى شطر الجبن يبذره وينتظر حصاده.
ونحمد الله حمدا كثيرا أن رئيس حكومتنا لا يد له- بعد- على حكومة ينأى بها، جبنا، عن جبال الريف، وكأن بها قوم هاجوج. لا يا سيدي لك جبنك، تاريخا في عنقك بحجم جبل، ولنا ريفُنا وأطالسنا، لأن الوطن واحد.
ومن باب ذكر الفضل لأهله أشيد بالأمر الملكي تجاوبا مع الخطب الجلل، وأشيد بوزير الداخلية الذي وُفق في الرد على جبن الجبناء كلهم، وليس رئيس الحكومة فقط:
أمناء الأحزاب الذين واصلوا مشاوراتهم في الرباط وكأنهم يُشكلون حكومة لتشتغل في المريخ.. أي خير يرجى من سياسيين لا يكفكفون دمع الوطن، حينما تزلزله إدارته؟
وأي خير يرجى من سياسيين يعيشون الماضي الخطاء حاضرا؛ وكأن ملك البلاد لم يضرب له خياما بالريف في حَمَّارة زلزاله؟ أي خير يرجى من رجال دولة يتوهمون أن الحسيمة تُخفي وطنا آخر غير الذي نعرف؟
لا يا سادة، لا تُدلوا بعبارات مقتطعة من سياقها لتُقزموا الحدث، بذريعة احتمال تطور الأمور نحو الأسوأ. لا تحاسبوا الناس على أثقال أخرجها الغضب، وعلى مِخيال جماعي لا يمكن إبادته.
الذاكرة لا تموت بإرادة القتل فقط. الذاكرة، وإن اسودت، تُخَصَّب بألوان التفاؤل والأمل؛ يتم تنزيلها برامج تنموية، حقوقا للمواطنين، وحريات مستحقة لشعب مغربي ناضل من أجل حريته.
أربأ برجال دولتنا- الممارسون والسياسيون- أن ينساقوا وراء هواجس وهمية تغذيها محطات ومواقع إعلامية أجنبية لا تعرف شيئا عن "كيمياء" المغاربة، وتوابل وطنيتهم؛ وصولا إلى الإيحاء بأن معركة أنوال دارت بين عبد الكريم الخطابي والعرش المغربي.
ومن الغباء أن يُظهر المدسوسون على مأتم محسن فكري -وفي ساحة محمد الخامس- العلم الإسباني جنبا إلى جنب مع صورة بطل الريف المغربي.
هؤلاء وغيرهم من الفتانين لا يحارَبون بالجبن، والخوف من التاريخ، وبالانزواء في الرباط هلعا من أشباح الريف؛ فهذا ما يرغب فيه الخصوم؛ بل برحيل رجال الدولة إلى مسرح الجريمة، لفهم كل تضاريسها، والوقوف على كل انشطاراتها؛ وقطع دابر الفساد بمدينة لا ترقى إدارتها إلى مستوى وطنيتها؛ بل حتى إلى روعة جمالها الطبيعي.
لماذا انتظار الغضبات الملكية، وكأننا بايعنا الملكية على الغضب؟ أين دولة المؤسسات التي شُرع في بنائها منذ فجر الحماية؛ وتكملة منذ فجر الاستقلال إلى يومنا هذا؟
وإذا لم يغضب الملك، أين يمكن أن تصل الرداءة؟
من يُثقل على المؤسسة الملكية إلى هذه الدرجة؟ ما يمكن أن يحله مجرد قائد، ولو حديث التخرج، يُحتاج فيه إلى غضبة ملكية؟
إن كانت هذه الأسئلة خَرَفا مِنِّي فقوموني من فضلكم.
رجاء إن لم نستطع الاشتغال، بالجُملة، مصلحين لإدارتنا كلها؛ فلنشتغل بالتقسيط:
كل عام نُخصصه -مركزين- لمدينة، لا تفارقها عين الدولة، حتى تُصلَح فيها كلُّ المرافق التي تستقبل المواطنين.
لنجعلها، بدءا، سنة الحسيمة؛ ترحل إليها لجان قطاعية، تُغطي كل المرافق، وتستمع إلى الناس، سرا وعلانية.
ها نحن نسمع اليوم عن "عنترة" في ميناء الحسيمة؛ فأين شيبوب، وأين عبلة؟
إن الريف من طوبوغرافية الوطن، وتاريخه طبعا؛ ولا يخاف منه إلا الجبناء.
لا شيء يخيفنا في تاريخ الريف لأنه اشتغل دائما في الوضوح التام؛ وصولا إلى دحر آلة استعمارية مزدوجة.
إن غضب أبناء الحسيمة اليوم – كما الأمس – غضب واضح وصريح؛ ليس ضد الوطن، وإنما من أجله.
وطن للحقوق والحريات والواجبات أيضا؛ إذ بدونها لا يستقيم أن نسميه وطنا.
لقد لقننا الوالد فكري درسا في الأبوة وفي الوطنية لن ينساه الوطن أبدا. وكم وددت لو تحرق الشاحنة القاتلة حتى لا تحمل أزبالا أبدا، وهي التي حملت شهيدا.
وحتى لا يراها هذا الأب الشجاع أبدا في شوارع المدينة.
ومرة أخرى الوطن أولا، بأبطاله، ومواطنيه، وبنزهاء إدارته؛ وحتى بمذنبيه الذين لهم عليه حق المحاسبة والتربية.
رمضان مصباح الإدريسي