“عندما نتحدث عن الثورة، يجب أن نحسها في أعماقنا وأن نمارسها في تفاصيل حياتنا، أولا ضد التخلف الذي ينام في أعماقنا كالبرك الآسنة. وإلا، فلا معنى للكلمات. أشعر أنه وراء الخطابات الكبيرة، يختبئ كذب كبير ووراء الأشياء الصغيرة والعفويات بداهات يجب أن نتعمقها، وأن نتقن التصرف معها”.
الكلام أعلاه لواسيني الأعرج في روايته “ذاكرة الماء”. حين نتأمل فيه… ثم نتأمل الواقع حولنا، ندرك كم من الخطابات الكاذبة يؤثتها فضاؤنا: في السياسة، في الفكر، في الدين، في حقوق الإنسان، في الإعلام، إلخ. كاذبة، ليس لأن قائلها أو كاتبها لا يؤمن بها، بل لأنها لا تنعكس على سلوكياته وممارساته الحقيقية.
ثورجيون هنا وهناك، في المغرب لكن أيضا في دول ما سمي بالربيع العربي، يدافعون عن الثورة وعن قلب الأنظمة وعن الحقوق. لكنهم لم يثوروا ضد المفاهيم الرثة البالية وضد التخلف الذي يعشش في الكثير من الأذهان. الثورة السياسية قد تكون حاجة ماسة في العديد من الحالات. لكن، هل هناك من ثورة سياسية ناجحة ما لم نحقق أولا الثورة الفكرية والقيمية؟ هل نتحرر من العبودية السياسية ما لم نتحرر من العبودية الفكرية والإيديولوجية والدينية؟ هل الثورة هي فقط ثورة ضد الأنظمة الظالمة، أم أيضا ضد الفكر الظالم الذي يؤسس لها، وضد أطنان الغبار والتخلف التي تعشش في الأذهان؟ هل يمكن بناء ثورة سياسية دون أن نؤسس لها بثورة فكرية وقيمية؟
الأمر يتجاوز الثورات بمفهومها المباشر ليمس كل جوانب الحياة اليومية: كل أولئك الذين يشبعوننا بخطابات جميلة، مقنعة في العديد من الأحيان، لكنها على طرف النقيض من سلوكياتهم.
ذلك المثقف المعروف الذي يسعى لأن يبصم بحضوره التحولات السياسية والثقافية لبلده، الذي يدافع عن الحرية وعن المرأة وعن الحداثة، والذي يعتبر في نفس الوقت أن زوجته هي جزء من أثاث حياته… لا تعنيه حريتها ولا حتى كينونتها، إلا بمدى قدرتها على توفير راحته الشخصية.
ذلك “المناضل الحقوقي اللاجئ في فرنسا” والذي هو بالأساس، وفي أصل الحكاية، أصبح مناضلا لمجرد أن طرفا ما، على ما يبدو، حرمه من “حقه” في ريع مادي… كيف يدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان من تحول إلى مناضل لمجرد أنه فقد “حقه” في الريع؟ وكيف يدافع عنه من يفترض أنهم يدافعون عن القيم وعن حقوق الإنسان؟ أم أن الدفاع عنه يكون من باب: “عدو عدوي هو صديقي”؟
رجال ونساء عاديون، بدون انتماء سياسي، لكنهم متشبعون بإيديولوجية إسلاموية. يحلون ويحرمون، يفتون، يصدرون الأحكام على غيرهم، يكفرون هذا ويقيمون صلاة ذاك؛ يحرصون على الفرائض والنوافل؛ لكنهم مستعدون للغش في بضاعة يبيعونها، يقسمون أغلظ الإيمان بتفاصيل يعرفون أنها كاذبة، ينهشون أعراض الغائبين وهم متشبعون بحقائقهم المطلقة… ويعتبرون خطابهم ولحاهم طريقهم الأسلك نحو الجنة، حتى لو داسوا بذلك أعراض وحقوق الناس.
حقوقيون يساريون يدافعون عن الديمقراطية وعن حقوق الإنسان، وميزتهم في ذلك انتقائيتهم العجيبة التي تحول القضية من نضال لترسيخ حقوق الإنسان إلى نضال ضد جبهة واحدة تتحول تدريجيا إلى شبه هوس تغطيه رداءات الديمقراطية والحقوق.
رجال أعمال يقفون، خطابيا، على طرف النقيض من الممارسات الاستبدادية. يروجون لخطاب مغر لأنه مختلف. يدافعون عن مجتمع يستفيد فيه كل مواطن من حقوقه… لكنهم يبخسون العمال في مصانعهم وفي بيوتهم أبسط الحقوق.
مؤسسات إعلامية معروفة، تعتبر كل الطرق مباحة من أجل جلب القراء: العناوين المفبركة، الأخبار الفضائحية، الإثارة المجانية… ثم بعدها تنتج، بكل وقاحة، خطاب الأخلاقيات.
مناضلات نسويات يعتبرن حقوق المرأة تتوقف عند البرلمان والمناصفة والوصول لمراكز القرار. حقوق المرأة وحقوق الإنسان لا تخص عاملة النظافة فهي ليست في مستوى حقوق الإنسان، والأم العازبة ليست إلا امرأة لم تحافظ على نفسها، والشابة الفقيرة قد لا تصلح إلا لالتقاط الصور معها بغرض الدعاية الإعلامية.
مناضلون وسياسيون وليبراليون ويساريون وإسلاميون ينتجون الخطابات الرنانة، لكن العنف الفعلي أو الرمزي اتجاه من هم أكثر منهم هشاشة يكون عندهم مستباحا. يساريون وحقوقيون يثورون ضد كل الشيء، إلا التخلف الفكري المعشش في أذهانهم والذي لا يبرز إلا في المواقف الحقيقية.
مواطنون عاديون يتغنون بالدين والتدين وينتجون مجتمعا فاقدا لكل القيم مثخنا بالآفات الاجتماعية. شعوب بأسرها تتحدث بفخر عن انتمائها لدين يحترم كل الأديان، وهي تقتل بعضها البعض لأنها، في الأصل وفي العمق، لا تستحمل الاختلاف ولا تتقبله ولأن الاختلاف ينتج عندها كل أعراض العنف والتطرف…
كل هؤلاء يتبارون في إنتاج الخطابات الجميلة. ولا أحد قادر أن يسائل سلوكياته الحقيقية… لعل الكلمات وحدها تكفي… ألسنا شعوب خطابة؟
سناء العاجي