"فهذا ما علم الله نبيه من رد الشيء إلى شكله ونظيره وهو أصل لنا في سائر ما نحكم به من الشبيه والنظير ".
الأشعري : رسالة استحسان الخوض في علم الكلام، مجلس دائرة المعارف النظامية 1344هـ ص 4
في ظل الصراع الدائر وتنبيها للتضليل اللفظي والمفاهيمي والمعرفي الذي تمارسه القوى الاسلامية السائدة في إنتاجها للمعرفة، تأتي هذه المساهمة للتعريف بالمنحنيات التي تعرفها العملية الفكرية لدى القوى الاسلامية الموسومة بـ"الوسطية" حول منظومة الحريات الأساسية، ويلقى هذا التيار وسط المثقفين المغاربة صدى وترحابا واسعين وتخصص له الجرائد حيزا مهما من اهتماماتها معتبرة إياه نموذجا للقراءة الاجتهادية للشرع، عبر البحث فيه عن القيم الكونية النبيلة واعتمادها في ملائمة الدين الإسلامي مع حاجات المجتمع المعاصر، فتحضر البداهة البلهاء لتحل مقام القراءة، وتحل الواقعية الظرفية مقام الفكر النقدي .
لكن ما تجب الإشارة إليه قبل الانطلاق في نقاش هذا التيار، أن الأسس والمبادئ التي يقوم عليها الأخيرة، ليست طارئة ولا هي قول جديد ، بل كل مبادئه تعتبر ركنا أساسيا في المقال النهضوي الكلاسيكي، نجدها مصاغة بوضوح أكبر لدى مفكري ما اصطلح عليه بعصر "النهضة". منذ أكثر من قرن ونصف من الزمن.
ويبدو من خلال استعادة الخطاب الوسطي للمقالة النهضوية أن أسس الفكر العربي المعاصر لازال يراوح مكانها ضمن دائرية مغلقة ابتدأت أواسط القرن التاسع عشر وأعادت نفسها بشكل مستنسخ في محطات متفاوتة من تاريخينا المعاصر سواء إبان النكسات أو الانقلابات او الأزمات المتعددة. ويبقى السؤال لم دائما العودة إلى عين الإشكالية التي تحكمت في الفكر النهضوي؟، ولم تتخذ مناحي التفكير الإسلامي "الوسطي" في الحريات شكل تذكير بالأسس المبكرة للمقالة النهضوية؟ المصاغة بأكثر من طريقة حسب المدارس الكبرى من الأزهر في مصر، والزيتونة بتونس والمدرسة الفكرية الاسلامية بالجزائر بقيادة الامام عبد الحميد ابن باديس ومدرسة المغرب السلفية بقيادة محمد بالعربي العلوي وعلال الفاسي والمدرسة الشامية التي حمل لواءها جمال الدين القاسمي وعبد الرازق البيطار ومدرسة التوحيد في مكة المرتبطة الصلة بالدعوة التي قادها الإمام محمد بن عبد الوهاب ومدرستي النجف والالواسي في العراق.
للإجابة على هذا السؤل سنعيد استبيان الأسس المستعادة للإشكالية النهضوية وذلك في أفق تجاوزها.
يقوم الفكر الإسلامي الوسطي على الأسس التالية:
أولا: استدعاء نصوص دينية بعينها لتبرير فهم هذا التيار لمفهوم الحرية مثلا دون التطرق بالتعرض أو بالتحفظ على آيات قرآنية وأحاديث نبوية تذهب إلى العكس من فهم أصحاب الوسطية، كما هو الحال في حرية العقيدة. ونقصد بالتعرض أو التحفظ، وضع الآيات المعاكسة لفهم أصحاب الوسطية ضمن أطرها المطابقة، لأنه لا يمكن بحال أن تقوم حقيقتان متعارضتان في النص القرآني الواحد. أي إعادة تاريخ من التوفيق بين المفاهيم والتصورات الحديثة وبين المفاهيم التي انبنى عليها الإسلام كعقيدة وخصوصا تأويل الآيات واستعمال منطق الانتقاء في التعاطي مع النص الديني ، بالشكل الذي يحقق على صعيد بنية التوفيق صواب وجهة النظر الإسلامية، فنجد النص القرآني على يد المتفيقهة الوسطيين قادرا على قول الشيء نقيضه في موضوع الحرية مثلا .
ثانيا: تستدعي المقالة الوسطية تنميطا دلاليا للتاريخ لبيان حقائق الأسبقية في موضوع القيم ، لكنها لا تشير إلى الحجر والمعانات التي تركها لنا هذا التاريخ نفسه في هذا المجال كما هو حال النكبة التي تعرض لها العديد من العلماء ، حيث يقوم الخطاب النهضوي على تجميع أحداث تاريخية دون غيرها و تقديمها على أساس أنها عين الماضي عن طريق آليات الملاءمة القياسية، حيث يتم تحديد معنى الحاضر بالقياس على الماضي وهي في عمقها عملية خاطئة لكن فكر الاسلام الوسطي يعيد تركيب الخطأ حين يعتمد الماضي المعاد بناؤه باستمرار، بعد ان يتم اقتطاعه من سياقه الذي تبلور فيه وظروفه وشروطه العامة.
ثالثا: وفي باب حرية الإبداع الأدبي والفني يستدعي "الإسلام الوسطي" سلطة الحاضر التي يمثلها المجتمع باعتباره الحاضن للمشاعر والقيم والأخلاق الدينية المستقرة. شارطة حرية الإبداع بعدم المساس بالمشاعر الدينية او القيم الأخلاقية المستقرة، ومن هنا يعطي "الإسلام الوسطي" الغلبة لصاحب السلطان على اعتبار انه من يملك قوة الحفاظ على المشاعر الدينية والأخلاقية الدينية المستقرة. وعلى اعتبار كذلك أن السلطة دائما تطرح نفسها وعاء القيم السائدة والحافظة لها، حين تترك للمجتمع سلطة المرجع الذي بدوره في آخر المطاف تتحدد مرجعيته وفقا للذي يملك القدرة على تحديد محتواه أي صاحب القرار.
وهكذا تعيد مقالة الوسطية نفس أسس المقالة النهضوية بل والخطير أنها تمهد لنا وترسم أفق وشكل النقاش الممكن على أرضيتها كما هو الحال في :
-باب العقيدة: فمعارضة حرية العقيدة انطلاقا من هذا الباب ستتم حتما باستدعاء نصوص قرآنية أخرى معارضة لفهمها وهكذا لن نبرح، مؤيدين أو معارضين، مجال العقيدة في مضمون الحقوق بالفصل في أحسن الأحوال بين عقيدة نقية وعقيدة ملوثة خاضعة للأهواء، ولن نتجاوزها إلى مضان فلسفية أخرى ُتضمن الحقوق عمقا فلسفيا مغايرا.
وفي باب التاريخ، سيستدعي المعارضون نصوصا بعينها وأحداث مميزة أخرى لتبرير أو تصليب أو تحوير موقف ما مناقض لها، في نظرة تقوم على استجداء أحداث تاريخية بعينها، والعودة إلى الموروث التاريخي لانتقاء مادة يشيد منها نظاما عقائديا يعيد تحقيق الإجماع من جديد حيث لا تتم قراءة التاريخ وفك رموزه بل إعادة صياغته بإهمال ترابط الوقائع كما يتبثها النقد التاريخي. وبذلك لن يبارح الجميع نظرة محددة للحاضر تقوم على اعتبار الماضي جوهر الحاضر واصله. و التاريخ في هذا المعنى يصبح مصاحبة دائمة لهوية ثابتة.
في باب الحاضر، يترك " الإسلام الوسطي" الغلبة لصاحب السلطان كما قلنا حين يتحول الذوق العام أي المشاعر الدينية و القيم الأخلاقية المستقرة الى نظام عمودي صارم المرجعية، فيتم إلغاء المجتمع وتعبيراته المتناقضة لصالح من هو قادر على تحديد محتوى الأخلاق المستقرة ، أي الجهة المهيمنة ميدانيا والمسيطرة سياسيا. ومن اطلع على مسار الفكر العربي من تجربة النهضة إلى الآن سيتعرف حتما على السيناريو القادم.
لكن المشكلة تصبح مركبة حين نسجن نقاشنا لراهننا السياسي ضمن الأطر التي يضعها "الإسلام الوسطي" لأنها تحمل في أحشائها إشكالات فكرية ماضوية – نهضوية - وكأنها عين الإشكال الحاضر، حيث تحضر الإشكالية السؤال التي انتظم على أرضيتها الفكر العربي النهضوي المصاغة في: لماذا تقدم الآخر وتأخرت الذات؟، كسياج ناظم لكل الأجوبة الممكنة، إذ تحضر الذات كمطلق و الآخر كمطلق وبينهما تميل الأهواء وتتشاكل.
إن الأجوبة المقدمة على أرضية هذا الإشكال قد استنفدت جميع مقوماتها. ونحن حين ننغمس في نقاشها بالاتفاق أو الاختلاف مع النقاط المدرجة فيها فإننا بالضرورة والاستتباع ننزلق إلى استحضار قرن و نصف من الإشكالات و الردود وبذلك لن نبرح ما هو مسطر سلفا في صلب الخلاف وسنعيد نفس الدورة من جديد.
هل آن الأوان لتجاوز إشكالية النهضة، إنها مهمة أساسية في حاضرنا الراهن الذي اثبت حراكه أن الأوائل الذين خرجوا للشارع في تونس و مصر لإسقاط الاستبداد، نادوا بالبرنامج الإنساني الشامل كما تحقق في الغرب، أما الذين سيطروا بعد ذلك على الثورات فهم من يعيد في الآن تحديد مجال إشكالات.
عزيز قنجاع.