يبدي الإسرائيليون في فلسطين المحتلة خصوصاً، ويهود الولايات المتحدة الأمريكية عموماً، اهتماماً شديداً بالانتخابات الأمريكية بصورةٍ عامة، ويبدون قلقهم من الساكن الجديد للبيت الأبيض في واشنطن، رغم أنهم يشعرون بطمأنينةٍ نسبيةٍ وارتياحٍ نفسي، لجهة ثبات واستقرار السياسة الأمريكية تجاه مستقبل كيانهم، بضمان أمنه وتفوقه العسكري، وسلامة مواطنيه ومصالحه، إلا أنهم رغم ذلك يجدون تفاوتاً في مدى إيمان وتفاني الرؤوساء الأمريكيين في خدمة كيانهم، والولاء لهم، ولهذا فإنهم يجندون أنفسهم ويسخرون قدراتهم، ويوظفون طاقاتهم لدعم المرشح الأقرب إليهم، والأكثر إيماناً بهم وحرصاً عليهم، سواء كان جمهورياً أو ديمقراطياً لا فرق عندهم، طالما أن الضابط الحاكم ومعيار المفاضلة الأساس هو الولاء لكيانهم، والتعهد بأمنهم وسلامتهم.
ولكنهم يبدون هذه المرة حرصاً أشد، وينتابهم قلقٌ أكبر، ذلك أن كيانهم يمر بظروفٍ سياسيةٍ صعبة، بعد أن بدأ المزاج الأوروبي تجاههم يتغير، الذي بدا أنه يقترب أكثر من المواقف الفلسطينية على حساب مواقفهم التاريخية تجاه كيانهم، حيث تحاول حكومات أوروبا الغربية الضغط عليهم لصالح القبول بحلولٍ سياسية ترضي الفلسطينيين، وتضمن لهم دولةً مستقلةً على جزءٍ من أرضهم التاريخية، حيث يرفضون سياسة الاستيطان، ويعارضون مشاريع تقسيم وتفتيت الأراضي الفلسطينية، وقد راعهم حملة المقاطعة الدولية ضدهم، والتي تصدرتها دول أوروبا الغربية وفي مقدمتهم بريطانيا، بالإضافة إلى قرارات الاتحاد الأوروبي بمقاطعة منتجات المستوطنات، والامتناع عن تقديم الدعم المادي لهم، ورفض إقامة أي مشاريع استثمارية في المستوطنات الإسرائيلية المقامة على أراضٍ فلسطينيةٍ في القدس الشرقية والضفة الغربية.
وحتى يضمن الإسرائيليون ثبات السياسة الأمريكية واصطفافها إلى جانبهم، وحتى يقللوا من أثر المتغيرات الأوروبية عليهم، فإنهم يعمدون إلى السيطرة على القرار الأمريكي، حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية ولسنواتٍ قادمةٍ ستبقى القوة الأعظم الوحيدة في الكون، وستتفرد دون غيرها بالقرارات المصيرية في العالم، الأمر الذي يوجب عليهم أن يساهموا في اختيار صانع القرارات المصيرية، واللاعب الأهم في السياسة الدولية، ولا يكون هذا إلا بزيادة ثقلهم الانتخابي، وعرض قدراتهم الحقيقية وتأثيرهم على الناخب الأمريكي، لتجبر المرشحين على إعلان الولاء لهم، والتأكيد على تأييدهم، والتعهد بعدم الضغط عليهم، ورفض فكرة التخلي عنهم وتركهم للضغوط والإملاءات الأوروبية تحت أي ظرفٍ من الظروف.
لهذا فإن الكيان الصهيوني يشكل دائرة انتخابية أمريكية كبيرة نسبياً، لا لجهة النفوذ والتأثير والقدرة على الضغط، وإمكانية التأثير على الناخب الأمريكي المؤيد للكيان الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث لا نقلل من أهمية وخطورة اللوبي الصهيوني في توجيه الانتخابات، وتأطير الصناديق بما يضمن فوز مرشحها الأقوى، على أساس أن كلا المرشحين مؤيدٌ لهم، وحريصٌ عليهم، ويسعى لضمان مصالحهم وتحقيق أمنهم وتفوقهم العسكري والتقني الدائم، حيث أن المرشحين والحزبين يتنافسان معاً في إبداء الولاء للكيان الصهيوني، والتأكيد على ثبات السياسة الأمريكية تجاهه، في سعيٍ محمومٍ منهما لضمان الأصوات اليهودية واليمين المسيحي المتطرف والمتحالف دوماً معهم، ولهذا تشكل إطلالات المرشحين للرئاسة على منظمة "الإيباك" أهم فقرات الحملة الانتخابية، إذ فيها يقرر اللوبي الصهيوني الأكبر والأكثر تأثيراً، أين سيوجه أصوات ناخبيه، ومن سيختار سيداً جديداً للبيت الأبيض الأمريكي.
ولكن الحديث يدور عن دوائر انتخابية أمريكية حقيقية داخل الكيان الصهيوني، وصناديق انتخابية يدلي بها مواطنون أمريكيون أصواتهم، إذ دلت بيانات الخارجية الأمريكية أن عدد الناخبين الأمريكيين اليهود الذين يعيشون في فلسطين المحتلة يصل إلى مئات الآلاف، وأن قرابة 160 ألف مستوطن يهودي أمريكي يعيشون في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، بارتفاعٍ ملحوظٍ عن أعدادهم في الدورة الانتخابية الماضية عام 2012 بنسبة 60% زيادة، وقد سجل اليهود الأمريكيون الإسرائيليوا الجنسية أسماءهم للمشاركة في الانتخابات من مواقعهم، وحيث هم في قمة التطرف، وفي أعلى الهرم المتشدد، وداخل أشد الحصون عدوانية وعنصرية للفلسطينيين خصوصاً وللأمة العربية والإسلامية على وجه العموم.
أما في عموم الكيان الصهيوني فإن عدد اليهود الأمريكيين يفوق هذا العدد، وفيهم نسبة كبيرة من الشباب وفئة الطلاب، الذين يفدون إلى فلسطين المحتلة للدراسة والاطلاع، ولزيارة "الأماكن اليهودية المقدسة"، علماً أن بعضهم ليسوا يهوداً، ولكنهم من اليمين المسيحي المؤيد للكيان الصهيوني، ما يعني أنهم سيصطفون مع المرشح اليهودي أو الصهيوني لا فرق، وسيكون لصوتهم تأثيرٌ كبير على النتائج الانتخابية، ولا يستطيع مرشحٌ للرئاسة الأمريكية أو رئيسٌ مرشحٌ لدورةٍ ثانية أن يهمل الأصوات اليهودية أو يتجاهلها، فهو وحزبه يعرفان عاقبة تهميش القدرات اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية، ويدركان أن سياسة إدارة الظهر لهم، لا تعني إغلاق بوابة البيت الأبيض وحسب في وجوههم، بل قد يصل العقاب الصهيوني والحرمان اليهودي للحزب إلى التأثير على حضوره في مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين، وهو الأمر الذي يخشاه الحزبان معاً، إذ يحرصان على أن تكون لهما الأغلبية في كلا المجلسين أو أحدهما، لضبط أداء الرئيس أو تكبيل حريته أحياناً في حال مضيه في سياساتٍ يعارضونها ولا يقبلون بها.
الإسرائيليون يراهنون دائماً على الأكثر دعماً والأقوى تأييداً لهم من بين المرشحين الأمريكيين، وهم يعلمون أن الفارق بينهما ضئيلٌ جداً، وقد لا يكون منظوراً أحياناً، ومع ذلك فإنهم يفاضلون ويتدخلون، ويهددون ويساومون، ويشترطون ويلزمون، ويقررون وينفذون ما يخدم مصالحهم ويحقق أهدافهم، إذ عندهم ما يمكنهم من الرهان دوماً على حصانهم الرابح.
أما العرب فإنهم يراهنون دوماً على الوهم والخيال، وعلى السراب والخداع، وعلى الحصان الخاسر والخيل المعقور، ولا ينالهم بنتيجة الانتخابات إلا المزيد من التحقير والازدراء، والمهانة والشماتة، ولا يحترمهم الرئيس الجديد ولو بادروا إلى تهنئته، أو هرولوا لزيارته، أو بالغوا في تقديم آيات الذل وعلامات الاستسلام له، بل يبالغ في جلدهم، ويعلو صوته آمراً لهم بالخضوع والاستسلام، والقبول بما يقدم لهم وعدم الاعتراض، والدخول بهدوءٍ بيت الطاعة وإلا .....، ورغم ذلك فإنهم أبداً لا يتعلمون ولا يتعظون ممن مضوا قبلهم، ولا يأخذون العبرة من السابقين أمثالهم، ولا يتقون مصارع ونهايات أسلافهم.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي