هل هو انحطاط السياسة أم انحطاط السياسيين؟ قد يبدو السؤال جدليا نوعا ما، إذا ما افترضنا أن تراجع دور السياسي يؤدي تلقائيا إلى تراجع السياسة. لكن في المغرب، يصعب التكهن حول سبب انحطاط كل منهما، ومدى تأثيرهما على الآخر.. ذلك أن أقصى ما يمكن أن يصل إليه التحليل، هو أن السياسي عندنا أشبه بفلاح ولد في أرض هشة، وأن هذه الأرض لم تجد الفلاح المناسب لحرثها وتسميدها وقطف غلاتها بيديه النقيتين.. وبالتالي قد يصطدم التحليل في آخر المطاف بمقولة من الأسبق في الوجود البيضة أم الدجاجة؟ لكن ثمة مدخل لفهم تراجع الاثنين معا.
قبل انتخابات السابع من أكتوبر، شاهدنا كيف ارتفع منسوب "الأدرينالين" في شرايين الأحزاب السياسية، ورأينا رؤية العين ما يشبه "القيامة" التي أذكى نيرانها حطب الصراع بين الأحزاب، بمختلف تلاوينها ورموزها وإيديولوجياتها.. كل حزب أفرغ محتواه من البرامج الحبلى بالوعود المغرية، التي تُشَغِّل على الورق آلاف المعطلين وتُعمِم التطبيب على الفقراء، وتعالج الاختلالات البنيوية للتعليم وترفع نسبة النمو إلى مستويات قياسية وتسدد ديون المغرب وتقلص عجز الميزانية، بل وتنتقد أداء الحكومة السابقة وتعد بحكومة ستكون خير ما أخرجت للناس، وانت غادي.. كل هذه الوعود لم تخرج عن إطارها التقليدي، لإحماء حدة التنافس الانتخابي والصراع السياسي من أجل كسب الأصوات، والارتقاء في ترتيب الأحزاب عند تلاوة البلاغ النهائي لوزارة الداخلية في نهاية العرس الانتخابي.. كما أن هذا التنافس، وإن خرج عن نطاق المألوف، كان عاديا، وتشفع له مرحلة الحملة الانتخابية التي يتم من خلالها تبييض كل السلوكيات الشاذة في ممارسة الفعل السياسي. لكن ما ليس عاديا، هو أنه مباشرة بعد إخماد نيران الانتخابات، والإعلان عن الحزب الفائز، تحول الفعل السياسي فجأة من الصراع حول "التمكين" بلغة الإسلام السياسي، إلى الصراع حول "التَمَكُّن" من كسب المآرب التي ترضي صقور هذا الحزب أو ذاك.
والملاحظ، أنه باستثناء حزبين اثنين، العدالة والتنمية وحزب الاستقلال، اللذان درسا المرحلة جيدا، بالنظر إلى مرجعيتهما التي تكاد تكون متقاربة، وتقاطعهما في عدة مبادئ واختيارات، أصبح صراع غالبية الأحزاب الأخرى مقتصرا على بناء التحالفات، وعقد الصفقات من أجل توزيع كعكة المقاعد الوزارية، وكأن الأمر يتعلق هنا بـ"تهافت التهافت"، وإن كان تهافت الغزالي وابن ارشد قد أسس لفكر عقلاني يقارع فيه كل منهما الآخر من أجل الانتصار لقيمه الفلسفية.
لكن أية قيم لهذه الأحزاب السياسية الآن، التي رمت برامجها خلف ظهرها بعدما أدت وظيفتها المرحلية في جني الأصوات، وهرولت نحو رئيس الحكومة من أجل أن تضع كل بيضها في سلته؟ أليس في الأمر نوع من البراغماتية، حينما تدوس هذه الأحزاب على برامجها والتفاوض مع رئيس الحكومة المعين حول عدد ونوعية الحقائب التي ستحصل عليها مقابل الاصطفاف إلى أغلبيته؟ والأكثر من ذلك، دون مراعاة لعامل التماهي أو القرب بين مرجعياتها وأيديولوجياتها مع مرجعية حزب بنكيران.
إن هذا التهافت، لا يخدم الفعل السياسي في شيء، ولن يعود بالنفع العميم على المواطنين، الذين ينتظرون حكومة قوية تترجم أحلامهم وآمالهم إلى سياسات واعدة، تغنيهم عن إحباطات الماضي القريب، الذي نهلت فيه السياسة الحكومية من جيوبهم ما تسميه إنجازات. كما لا يمكن لاختلاف المرجعيات أن يخلق انسجاما داخل ائتلاف واحد. إذ من سريالية الممارسة السياسية، أن نرى تصورا موحدا ينتج عن تحالف الإسلامي مع الحداثي والليبرالي واليساري والاشتراكي والتقدمي واليمين الوسطي والمحافظ.. لكن عبثية السياسة عندنا، ماتزال تؤمن بأن كل شيء يمكن "مغربته" تماشيا مع خاصية الاستثناء. تماما كما الربيع العربي الذي شبهه ذات يوم بنكيران بالشاي الصيني الذي "تمغرب" بعد إعداده في البراد المغربي. لكن إذا اصطفت كل هذه الأحزاب بمرجعياتها المتباينة إلى جانب بنكيران داخل أغلبية ائتلافية، فأي قيمة ستصبح للمعارضة التي ينبغي أن تكون قوية حتى تخلق توازنا في المعادلة السياسية؟ وبالعربية تاعرابت، إذا عدنا إلى مثل بنكيران، "واخا ندريو فهاذ البراد، السكر وأتاي والنعناع والشيبة وفليو والزعفران الحر، ونشحروه مزيان، غيكون مذاقو باسل، كما أن تواجدو بوحدو فالصينية مغتكون عندو حتى قيمة بلا كيسان؟" كذلك ومثال بالنسبة لأغلبية واسعة مقابل معارضة هشة أو شبه منعدمة..
إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن، هو على أي أساس سينبثق التحالف الحكومي؟ وبناء على أية معايير؟ وهل سيحضر البرنامج الحزبي والمرجعيات بقوة في تشكيل أغلبية منسجمة، تتجاوز منطق البلوكاج الداخلي للقرارات، والتماهي الكلي مع ميثاق الأغلبية المشترك.. منطقيا، هذه هي خارطة الطريق التي ينبغي أن يسلكها رئيس الحكومة، لتجاوز مطبات ولايته الماضية. وإن كان المنطق السياسي يقول، إن أقرب تصور لحكومة منسجمة، ينبغي ألا يخرج عن إطار تنسجم فيه المرجعيات، أو تتوحد فيه الرؤى، وأن أسرع طريق لتحقيق هذا الانسجام هو أن يضع بنكيران يده في يد الأحزاب الوطنية التي خرجت من رحم الشعب، خاصة وأن ثلاثة منها انصهرت في تجربة الكتلة الديمقراطية، ولها باع طويل في الحكومة والمعارضة. عدا ذلك، سيكون أي تصور آخر، مجرد "بريكول" ظرفي.. قد يشتغل فعلا، وقد تصدر عنه جعجعة، لكنها ستكون بدون طحين. ولكم في التجربة السابقة أصدق مثال.. "فاعتبروا يا أولي الألباب".
بقلم إدريس شحتان