عبد الإله ابن كيران، هذه الأيام، سعيد جدا على ما يبدو. بقدر ما شغله العمل الحكومي، في السنوات الخمس الماضية، عن “التكتكتة” الحزبية الصرفة، مكبّلا (نسبيا) بقيادة الحكومة، ها هو يستغل وقته إلى أقصى حد ممكن في ممارسة هوايته المفضلة، متخلصا، مؤقتا، من تكاليف التدبير الحكومي، شبه متفرغ لتسيير حزبه والتشاور حول تشكيل الحكومة الجديدة، وهو بذلك ينفّس عن نفسه وعن حزبه، منتقما مما فات، ومستبقا لما سيأتي.
ابن كيران رجل سياسة يتقن استغلال نقط الضعف عند الآخر، فإما يعزله وإما يستدرجه إلى ملعبه. هكذا يُدير معاركه، وغالبا ما يؤتي هذا الأسلوب أكله، وهذا بالتحديد ما فعله، أو يفعله، أو يفكر في فعله، مع قيادات الأحزاب السياسية التي يتشاور معها بحثا عن أغلبية حكومية مريحة، أو غير مريحة، فقيادة الحكومة، في نهاية المطاف، أمر مريح (نفسيا)، أو على الأقل هي نوع من التعب الذي يولد الراحة.
هذا هو منطق المنتصر، أن ينتشي، قدر الإمكان، محتفلا بالنصر بعد كل معركة، في انتظار أن يبدأ معركة أخرى باحثا عن نصر آخر. وابن كيران من النوع الذي يدير الحرب معركة معركة، فلا يحرق أسلحته جميعها ولا يستهلك ذخيرته كلها، بل يعمد إلى استنزاف خصومه، حتى ينهك قواهم، لكنه إن تأكد أن قواهم خارت، لا يأسرهم، بل يحضنهم و”يطبطب” عليهم، وقد يساعد على تضميد جراحهم، لأنه يعي أنه من مصلحته ألا يشعر الخصم المستسلم بِذل الهزيمة، خصوصا إذا تعلق الأمر بـ”أعداء الصف الثاني”، لذلك يتفادى أن يترك لهم الفرصة للعودة إلى المعسكر الآخر بعد أن تبرأ جراحهم، وفي المعسكر الثاني يوجد من يعتقد ابن كيران أنهم “أعداء الصف الأول”.
باختصار، ابن كيران يعرف من أين تؤكل الكتف، وحتى “القرفاذة”، ولفهم طباعه السياسية يحتاج إلى علماء النفس، أما علماء السياسة، ومعهم جزء من معسكر المراقبين، فقد تحولوا إما إلى مداحين أو إلى عكس ذلك، كل من منطلقه، وبالتالي فأحكامهم تتأثر أكثر مما تؤثر، ولا ترى من الحقيقة إلا ما تريد.
انطلاق المشاورات حول تشكيل الحكومة الجديدة يثبت أن “طبطب على عدوك من الصف الثاني” هو الأسلوب المفضل، الناجع، لدى ابن كيران. استطاع، في بضعة أيام، أن يستدرج حميد شباط، مستغلا درجة الترهل التي وصلها الجسد الاستقلالي. وشباط، من جهته، استطاع أن يستدرج إدريس لشكر، مستغلا حاجة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى فيتامينات تنقذ ما يمكن إنقاذه بعد حالة الإسهال الشديد التي أنهكت جسد حزبه بسبب الإفراط في تناول “فواكه موسم المعارضة”.
سينتهي لقاء ابن كيران بشباط بما يشبه “وعدا بالتحالف”، وهو ما سينتهي به أيضا لقاء ابن كيران ولشكر. وهذا في حد ذاته انتصار لزعيم البيجيدي. وما لم ينتبه إليه الكثيرون، ممن راقهم دخول لشكر إلى بيت الإسلاميين، هو أنه إبان التحضير لتشكيل حكومة 2012، رفضت قيادة الاتحاد الاشتراكي، بقيادة عبد الواحد الراضي، أن ينعقد اللقاء التشاوري في مقر البيجيدي، لذلك تم اللقاء في بيت الراضي نفسه، حيث انتقل إليه ابن كيران مرفوقا بالراحل عبد الله بها، مع العلم أن الراضي لم ينطق بجزء في المائة مما نطق به لشكر في حق ابن كيران، وابن كيران لم يطلب غير “تسخين الكتاف” حينها.
يستمر الاستدراج، بدون أي منطق، حتى صارت الأحزاب كلها، تقريبا، غير معترضة على التحالف مع البيجيدي، ولتذهب الحملة الانتخابية وما قيل فيها إلى الجحيم. أما السيناريو السوري الذي حذر منه لشكر فقد تحول إلى “سيناريو سوريالي”. وحدهم سكان الفايس بوك يقفون مشدوهين مستغربين لقدرة رجال السياسة على تغيير خطابهم، بين انتخابات وضحاها، من النقيض إلى النقيض.
على ما يبدو الأحزاب السياسية كلها، بعد “حرقة” 7 أكتوبر، محتاجة إلى حقن بوطوكس، والحقن، حاليا، متوفرة في مقر البيجيدي في حي الليمون في الرباط، وقد ظهر للبعض أن “حقن” طريق زعير تستنزف أكثر مما “تنفخ”!
من حق ابن كيران أن يسعى إلى تشكيل الحكومة، لكن الغاية لا تبرر الوسيلة دائما، فذاكرة الرأي العام ليست مثقوبة بالقدر الذي يجعله ينسى، بهذه السرعة، ما بنت عليه الأحزاب حملتها الانتخابية. شباط بنى برنامج حزبه على انتقاد تعامل الحكومة السابقة مع بعض الملفات، واعدا بمراجعتها، ولشكر بنى حملته على التهويل من عودة البيجيدي إلى قيادة الحكومة، محذرا من التصويت عليه، وابن كيران بنى حملته على التحذير من وصول البام، ومن معه، إلى الحكومة، مؤكدا أنه لن يتراجع عن مسلسل الإصلاحات “الضارة”. كيف سيلتقي هؤلاء إذن في حكومة واحدة؟ كيف سننسى ما قاله شباط في حق ابن كيران؟ وما قاله ابن كيران في حق شباط؟ وما قاله لشكر في حق ابن كيران؟ وما قاله ابن كيران في حق لشكر؟ كيف سننسى داعش والنصرة وأحمق فاس وسفيه الاتحاد وديكتاتور الحكومة وأمريكا وسوريا والعراق وليبيا….؟
لا يبدو أن ابن كيران مهووس بإشراك الاستقلال والاتحاد في حكومته حبا فيهما، بقدر ما يسكنه هاجس واحد: عزل البام. هذا خطأ يرتكبه الرجل في حق المغاربة، لأن تشكيل الحكومة لا يكون بمنطق “أنت ضد البام إذن أنت معي”، أو “أنت مع البام إذن تعال معي”. الحكومة لا تتشكل “نكاية” في حزب سياسي، وإلا فإنها ستخرج عرجاء. وإذا تحالف ابن كيران مع من ظل يجتهد في وصفهم بالحمقى والسفهاء فإن المغرب سيكون مضطرا إلى استيراد الكتلة الناخبة من الخارج مثلما يستورد العدس والقمح، ولن يكون من حق حزب أن يتساءل عن أسباب العزوف.
لا تلووا عنق شعار “المصلحة الوطنية”، فمصلحة البلاد لا تعني بالضرورة المشاركة في الحكومة. المصلحة الوطنية هي الحفاظ على الحد الأدنى من الوضوح والمبادئ والأخلاق، والزعماء الحقيقيون لا يتهافتون على المناصب، بل ينسحبون صامتين، فتأتيهم قبلة على الجبين من ملك البلاد بعد 14 عاما من الصمت…
رضوان الرمضاني
#مجرد_تدوينة