حزب إسلامي يشارك في العملية السياسية.. هي من المؤكد العبارة الأكثر مدعاة للقلق عند استحضار العديد من التجارب التي استدرجت عددا من الدول نحو “الفوضى اللاخلاقة” التي وصلت أوجها ما بعد مرحلة “الخريف العربي” .. في الأمر نظر ودعوة للوقوف من أجل تسليط الضوء على “الإستثناء المغربي” الذي قدم نموذجا مخالفا بفضل الأرضية الصلبة لثقافة “الإسلام المغربي” المتجدرة في عقلية أبنائه، بمن فيهم أبناء الحركة الإسلامية الذين وإن جرفهم التيار المشرقي في عدد من المحطات، إلا أنهم اختاروا عن قناعة داخلية أو مجاراة لواقع مجتمعي وسياسي “الإذعان” لخيار المشاركة عوض “الاستحواذ” كما هو حال التجارب المشرقية الفاشلة.
سلطت العديد من وسائل الإعلام العربية والغربية الضوء على التجربة السياسية بالمغرب بعد نتائج انتخابات 7 أكتوبر 2016، و بما أن الحزب الذي تصدر الانتخابات للمرة الثانية ، أي ” حزب العدالة والتنمية” معروف بتوجهاته الإسلامية، فإن جل التحليلات سلطت الضوء على التجربة الدينية بالمغرب، والدور الحيوي الذي لعبته مؤسسة إمارة المؤمنين في الحفاظ على الأمن الروحي للمملكة للحيلولة دون خلط الأوراق السياسية بالمعطى الديني، وما يشكله الأمر من إرباك قد يهدد استقرار البلد.
ندوة ” إسلاميو المغرب: التجربة والانعكاسات” التي بثتها إحدى الفضائيات العربية عقب الإعلان عن نتائج الإنتخابات، قدم خلالها المتدخلون عددا من النقاط التي ساهمت في صنع الإستثناء المغربي الذي تحول لمثال تطالب عدد من العواصم الدولية بتعميمه، في الوقت الذي شكل هذا المثال إحراجا للتيارات الراديكالية التي اعتقدت أن الطريق أصبح سالكا أمامها لبسط سطوتها على الحياة السياسية والدينية. فيما يلي عرض لأهم ما جاء في مداخلة المشاركين في الندوة التي حاولت جرد الفوارق بين إسلاميي المغرب والمشرق باستحضار الدور الملكي الموجه للحالة الدينية الرامية بظلالها على المنطقة.
الخصوصية المغربية عمرها 1200 سنة .. والبيعة أقوى من نتائج انتخابية موسمية
” هناك خصوصية مغربية لا ينبغي تجاوزها، لأن المغرب في أكثر من محطة أثبت أنه يتميز بخصوصية معينة لأسباب تاريخية، فهو انفصل عن العالم الإسلامي منذ 1200 سنة وأسس دولته المستقلة كما يتميز باستمرارية حكم أسر معينة، آخرها الأسرة العلوية المتواجدة منذ قرون” يقول المدير التنفيذي لمعهد الدراسات المستقبلية بلبنان ” محمد شهاب الإدريسي” خلال مداخلته التي سلطت الضوء على أهم الفوارق التي ساهمت في وضع النموذج الديني المغربي ضمن خانة النماذج المعتدلة التي راهن عليها الغرب بديلا عن الإسلام المتشدد.
الوعي التام بحجم ووزن المؤسسة الملكية الراسخة لأزيد من 1200 سنة، جعل إسلاميي المغرب أكثر تعقلا من إسلاميي المشرق، كما أن هذه الملكية ترتبط بالشعب بنظام البيعة الذي يعد أثقل وأقوى من أي نتائج انتخابية موسمية، “لذلك بنكيران يعلم حدود قوته رغم إحرازه لأزيد من مليون صوت، إلا أنه يعلم أن المغرب أكبر من هذا الرقم ، ويدرك أن الملكية تشكل العمود الفقري للبلاد .. ، كما أنها أرسخ من خلال البناء التقليدي للدولة الذي زاد قوة بعد الاستقلال.. فالقصر يسيطر على المجال الديني، كما أن التدين التقليدي له جمهور واسع بين المغاربة الذين لا يحبذون الإسلام الحركي.” حسب توصيف المدير التنفيذي لمعهد الدراسات المستقبلية بلبنان.
وإذا كان الوعي الجيد بوزن المؤسسة الملكية داخل الحقل الديني قد حال دون انجراف بعض التيارات نحو الإنفراد بالحقل، فإن غياب هذا المعطى جعل عددا من التيارات المشرقية ترى في نفسها الممثل الشرعي للإسلام، وفي هذا الإطار يقول الإدريسي ” لقد اعتقد إخوان مصر أنهم يشكلون غالبية المصريين، كما سقط مرسي في الغرور عندما حصل 13 مليون صوت ولم يُقدر بأن هذا العدد يشكل 13 في المائة فقط من المصريين .. لذلك كرر عبارة الشرعية عشرات المرات معتقدا أنه ممثل الإسلام الذي سيقدم الحل”.
هذا الالتباس في تقدير الوضع الحقيقي للإسلام الحركي داخل البيئة الإسلامية التقليدية المتوارثة، ساهم بقوة في فشل المشروع الإسلاموي المشرقي، داخل بيئته الأصلية، وداخل البيئة التي حاولت احتضانه بعد التأثر به، إلا أن ابن كيران وإخوانه استندوا على حدسهم البراغماتي لإدراك الفوارق، وفي هذا الصدد يشير أحد الباحثين اللبنانيين إلى” أن مشكل الإخوان في المشرق أنهم لم يقدروا حدود الدولة العميقة ولم يقدروا قوة خصومهم جيدا، والأمر مختلف في المغرب لأن بنكيران كان على دراية بقوة الدولة لذلك فضل التمرد على أستاذه الراديكالي عبد الكريم مطيع، واختار مرافقة الدكتور الخطيب باعتباره أحد أبناء القصر، كما فتح مبكرا علاقة مع وزارة الداخلية، فكان بذلك على دراية بحدود اللعبة”.
عباءة إمارة المؤمنين تفسح الطريق أمام الإسلاميين
“لا شك أن الحالة المغربية بشكل خاص هي حالة استثنائية في الفضاء الإسلامي الكبير، لأنها خاضت عددا من المراجعات الفكرية طيلة عقود وهي النقطة التي لم ينتبه لها إسلاميو المشرق، وهو ما جعلنا أمام نموذجين: الأول إسلام إصلاحي في الحالة المغربية، والثاني إسلام ثوري في الحالة المشرقية.” يقول الباحث المصري بمركز الدراسات والأبحاث بالقاهرة ” مصطفى زهران”.
زهران اعتبر أن سر التجربة المغربية المستقرة يكمن في أن جل الصراعات والسجالات الدائرة بين الأحزاب السياسية سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية تدور تحت سقف السلطة الملكية، وهو ما يكسر حدة السجال مقارنة مع الحالة المشرقية التي تتصارع من أجل الوصول لهرم السلطة، وهو ما حرم التجربة المشرقية من ميزة مرونة وتكيف التجربة الإسلامية المغربية.
وعلى الرغم من أن العديد من المراقبين يصفون التجربة الإسلامية المغربية بأنها تسير في فلك التجربة التركية، إلا أن الباحث المصري من خلال استعراضه لعدد من المراجعات و”الإنقلاب الفكري” الذي قام به عدد من قادة الشبيبة الإسلامية مطلع الثمانينات، يرى أن إسلاميي المغرب كانوا سباقين لإجراء مراجعات ألهمت الأتراك خلال الانقلاب على التجربة الأربكانية، ويربط الباحث المصري هذا التميز المغربي بقدرته على مراعاة الظرفية الزمنية والسياق العام والفضاء المجتمعي الذي يلتف بالظاهرة المغربية.
المقارنة بين تجربة الإسلاميين بالمغرب والمشرق تكاد تكون غير ممكنة، ذلك أنه في الوقت الذي شكل المد الإسلامي مصدر إرباك و إزعاج للرؤساء العرب، كان الراحل الحسن الثاني يفسح المجال للإسلاميين تحت عباءة إمارة المؤمنين، ” وربما ظهرت المشاركة السياسية والمجتمعية بشكل أكثر تطورا مع الملك محمد السادس .. ومن هنا يظهر تباين الولاء، فإسلاميو المشرق في صورة الإخوان ظلوا مرتبطين بالمرشد، بينما إسلاميو المغرب مرتبطون بالملكية، لذلك محاكاة النموذج المغربي تتطلب التأصيل للفصل بين الدعوي والسياسي، مع محو الهيكلية التي رسمتها جماعة الإخوان لعقود”.
نجاح النموذج المغربي كما أطرت له إمارة المؤمنين، وعلى الرغم من الصعوبات التي تواجهه والانتقادات التي توجه له من طرف بعض التيارات المتشددة “المعلقة أفئدتها” بتجارب المشرق الفاشلة، تمكن من أن يتحول إلى مثال قابل للتعميم، وقد أشار العديد من خبراء الشأن الديني أن هذا النموذج بعث الأمل في عدد من التنظيمات المعتدلة في الدول العربية، بعد أن انكمشت خلال السنوات الأخيرة أمام المد المتسارع للإسلام الراديكالي، كما اقتنع البعض بضرورة المشاركة في مراجعات تعيد ترتيب التعاطي مع الشأن الديني والسياسي.
حزب الاستقلال مهد الطريق للفكر الإخواني باالمغرب !!
الباحث في المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة “بلال التليدي” قدم بدوره أهم النقاط التي جعلت من المعطى الديني عامل استقرار بالمملكة بعد أن تحول لعامل فوضى بعدد من الدول المشرقية، وفي هذا الصدد يقول : “هناك خاصية لا ينتبه لها الكثيرون وهي الشأن الديني الذي يعد اختصاصا حصريا للملك، فالفوضى في المجال الديني والتداخل الكبير ما بين المجال الديني والمجال السياسي أربك الحياة السياسية في عدد من الدول، لكن إبعاد المجال الديني عن المناكفات السياسية أخرج المغرب من المأزق، لنجد تمايزا واضحا ما بين المؤسسات الدينية والمؤسسات السياسية، وهو ما يجعل للدين وظيفة جامعة بدل وظيفة التفريق .. طبيعة النظام السياسي في المغرب كان لها أيضا دور في الخصوصية الإسلامية المغربية، لأن المؤسسة الملكية تمتلك الآليات القادرة على امتصاص كل الإشكالات و الاصطفاف التي يمكن أن تؤثر على الاستقرار السياسي في المغرب ..”
الباحث المغربي “بلال التليدي” ركز خلال مداخلته على الدور الذي لعبته المراجعات بين صفوف الحركة الإسلامية انطلاقا من سنة 1981، وهي المحطة التي سمحت للحركة الإسلامية أو بعض قيادييها على أقل تقدير، في استيعاب الفوارق بين البيئة المغربية والبيئة المشرقية واستحالة تنزيل نفس المشروع داخل المغرب، حيث تم التراجع عن فكرة الكفاح المسلح ضد الملكية، كما تم التمحيص في عدد من المفاهيم الإخوانية التي عرفت طريقها نحو المغرب وفي هذا الإطار يقول التليدي “كان أول شيء تمت مراجعته هو الموقف من الدولة، والموقف من الأحزاب السياسية، فهم لا ينظرون للدولة باعتبارها طاغوتا يجب أن يزاح، أو الأحزاب السياسية كبيادق جاءت لتحل محلها، ثانيا هم يعتبرون أنفسهم جزءا من الإصلاح وليسوا محتكرين له،وفي نقطة ثالثة أدركوا التمايز بين السياسي والدعوي، كما أنهم تبنوا الديمقراطية الداخلية واقتنعوا بالمنطق التشاركي لأنهم أدركوا أن المنطق الإصلاحي لا يتم بهم فقط لذلك تشاركوا مع الآخرين من خلال تحالفات، كما أبعدو القضايا العقدية والهوياتية عن العمل السياسي، وهو ما يلمس في تحالفاتهم، وأخيرا نجد القدرة على فهم واقعهم وبيئتهم السياسية وتناقضات الواقع الدولي”.
ومن النقاط المثيرة التي أثارها التليدي خلال مداخلته أن حزب العدالة والتنمية وإن تأثر في بداياته بالفكر الإخواني وأدبياته، إلا أنه لم يكن الطرف في تسويق هذه الأدبيات داخل البيئة المغربية، راميا بالكرة في ملعب حزب الاستقلال في إشارة إلى العلامة علال الفاسي وجمعية شباب النهضة التي كان يقودها المجاهد أبو بكر القادري، والتي كانت تنشر مجلة الإيمان في الستينيات وهي المسؤولة عن نشر الفكر الإخواني الذي تمكن من جذب عدد من الشباب المغربي، وفي مقدمتهم قيادات الشبيبة الإسلامية النواة الأولى لحزب العدالة والتنمية الذي دشن سلسلة مراجعات تخلت عن مفهوم الجاهلية والعزلة الشعورية عند سيد قطب، كما راجع مفهوم إزاحة الطاغوت ومختلف المفاهيم الاخوانية التي اعتبرها عائقا يمنع الانفتاح والمشاركة في المجتمع المغربي ..
سكينة بنزين