يفرز المشهد السياسي المغربي من جديد حالة تستدعي بعض التأمل ، وتستفز الرأي العام وكل ذي عقل سليم . حيث يجدر التساؤل عن مصداقية الفاعل السياسي ومدى وضوح الرؤية لديه ، واستقرار الرأي عنده ، فمعظم الأحزاب – حتى نتلافى التعميم – تتحفظ على إعلان تحالفاتها في المرحلة السالفة على الاقتراع ، من حقها أن لا تغامر فربما لا يقين لها في نوايا التصويت ولا ثقة لديها في ذاتها قبل الآخرين فلماذا تغامر إنها تترقب حكم الصناديق ولكن الغريب أنها مع ذلك لا تتردد في شحذ كل أسلحة الدمار حتى قبل النزول إلى وغى الحملات الانتخابية ، فليس فينا من يمكنه أن ينسى القصف المدوي والمتبادل الذي كانت مسرحا له منابر البرلمان بمجلسيه والتصريحات على أعمدة الصحف وعبر وسائل الإعلام والتظاهرات بكل أنواعها ، قصف لم يدخر فيه جنرالات المعسكر السياسي اتهاما إلا كالوه لبعضهم ، قصف تجاوز حدود الخلاف السياسي والاختلاف في الرأي إلى تشخيص لحالة نفسية .
قد يفهم المرء أن التسابق لاستقطاب تعاطف الناخبين من شأنه أن يزعزع رشد بعض السياسيين ولكن حين يفضي هذا التسابق إلى تمزق واضح لصورة معظمهم تكون النتيجة الكارثية المحتومة : التدهور التام لمنسوب الثقة والهجرة المتواترة لصناديق الاقتراع .
من الطبيعي أن كل حزب سياسي يطمح الوصول إلى سدة الحكم ولأجل ذلك يجتهد في تقديم برامج ومرشحين ويتقاتل لكسب الأصوات والمقاعد ولا يتردد في تصويب مدفعيته الثقيلة صوب خصومه المعلنين بالصريح من العبارات والفاضح من الشتائم والمناورات ، ولما تنطق صناديق الاقتراع وتستعمل " المنهجية" الديموقراطية " بتفعيل المقتضى الدستوري في التكليف برئاسة وتشكيل الحكومة يصبحون مشروع الحليف لذلك " الداعشي " نصير " النصرة " الذي كان يهدد استمراره لولاية ثانية أمن البلاد والعباد ..
من منا لا تستفزه اللقطات والتصريحات والتحركات التي طفت بمناسبة مشاورات تشكيل الحكومة المقبلة : الذين كانوا بالأمس القريب (ينتقدون بنكيران وأسلوب بنكيران وحكومة بنكيران وسياسة بنكيران) يعارضونها وينعتونها بأكثر النعوت شراسة، يبشروننا اليوم بتحالف وردي مقبل يلتقي حول المصلحة العليا للوطن ، كم نود أن نصدق ذلك ولكن ما السبيل للاطمئنان بالنسبة لكل الذين كانوا دائما ومنذ اقتراع نونبر 2011 يؤيدون قيام حكومة تتحالف فيها أحزاب الكتلة مع العدالة والتنمية ‘ كل أولئك الذين وضعوا أيديهم على قلوبهم وهم يرون كيف استنكف الاتحاد عن هذه المشاركة مفضلا العودة إلى المعارضة وتضميد جروحه في قراءته لنتائج الاقتراع ، وكيف تحول موقع حزب الاستقلال بعد مؤتمره 16من حليف أول إلى معارض شرس يزرع الألغام تحت أقدام بنكيران عند كل منعرج ، وكيف عوض مزوار قائد جي 8 المعادي للعدالة والتنمية وزراء الاستقلال على رأس فريق وزاري من الأحرار ....
من المهم أن يعلن الاستقلال والاتحاد عودتهما إلى تنسيق وتوحيد المواقف إيذانا باستئناف روح الكتلة في خضم مشاورات تشكيل الحكومة المقبلة ، هي توبة واضحة وخلاص من لعبة لا يجهل أحد خيوطها ولكن أليس من المهم أيضا أن يسمع الرأي العام حقيقة المعطيات التي تبرر موضوعيا وبعيدا عن لغة الخشب مصافحة رئيس الحكومة المكلف ومبادلته التحية بأحسن منها و إعلان العزم على تسهيل مأموريته أي بالمختصر المفيد التعامل إيجابا مع دعوته والنزوع إلى مشاركته حقائب الحكومة بعد كل اللكمات التي تلقاها وحكومته من قائدي الحزبين كليهما ؟
ألا يجدر بهما ركوب فضيلة الاعتراف بالأغلاط القاتلة المقترفة في حق السلوك السياسي ؟ أليس مفيدا الإعلان على الملأ عن مراجعة الذات قبل كل شيء وبيان أن الاعتراف والمراجعة يفسران إعادة النظر في الموقف والموقع ، أليس في ذلك ضمان أوفى لاحترام الرأي العام وإسهام في استرجاع ثقة مهزوزة في السياسة والسياسيين ؟
قد يكون إرجاء الإعلان عن التحالفات لما بعد ظهور نتائج الاقتراع أكبر مظاهر الانتهازية في السياسة والعنوان العريض لإفلاس العملية الديموقراطية والإجهاز الواضح على القيم والمبادئ ،ولكن العودة إلى فضيلة الاعتراف ومراجعة الذات وتقديم أجوبة موضوعية لكل ما يفرض نفسه من أسئلة بخصوص حالة مشهدنا السياسي اليوم من شأنه أن إضفاء المصداقية الضرورية على كل تشكيل حكومي قادم وعداه سنظل ننظر لأحزابنا وإلى العملية الديموقراطية كما تقترف عندنا نظرة ارتياب عميق تنذر بالمزيد من الجفاء لصناديق الاقتراع واليأس من ارتقاب أي إصلاح أو تنمية .