(1)
محبس الريع الديني :
هكذا لقب شيخ المعرة نفسه ،حينما أخرجه العمى من نعيم النور إلى بؤس الظلام؛ومن سعة الحياة إلى ضيق المسكن.
محبسه الأول قاهر ،أما الثاني فهو اختياري؛ومن كليهما – يا للمفارقة – فتل نور المعرفة والشعر مَعارج، لم يرقها أحد قبله ؛عبر بها إلى الأعالي حتى أبصر ما لا يبصره الناس،ووسع المحبس حتى شمل العصور كلها ،خالدا مع الخالدين.
رغم كل ما قلته،قبل الانتخابات الأخيرة، عن موت السياسة ،المخلصة في نضالها للوطن التاريخي الذي نعرف ؛وعن ميلاد الكائنات الانتخابية المخلصة لمصالحها ،في الوطن اللاتاريخي الذي تراه ولا نراه؛فإنني صُدمت ،ليلة القبض على النتائج ؛وقد تواصَلَت،عندي، ليلة بيضاء بئيسة ،إلى أن سكتت شهرزاد عن الكلام المباح.
لعلها سكتت خجلا من وطن مهيب استيقظ.
صُدمت من الصدق الأبلج لكل قناعاتي التي حبلت بها مقالاتي السياسية السابقة ؛منذ ألزمت نفسي بأولوية الاشتغال على الوطن ،اعتبارا لما آلت إليه أوضاعه النسيانية ؛حتى كاد أن يصبح موضوعا للنسيان فقط،لولا خطب ملكية، في المناسبات ، تذكرنابه.
في انتخابات الدول الديمقراطية ،التي اخترنا أن نتعلم منها الشكل فقط، يتأسس كل شيء - برامج وتدافعا ت- على ثوابت الوطن أولا ؛ باعتبار أن الوطن هو الناخب الأول ،الذي يوجد دائما في حملات وانتخابات مفتوحة؛ولنقل بلغة داروين،في حالات نشوء وارتقاء.
من أزرى به هذا الوطن ،ولو مُتلبسا ،فقط،بتهرب ضريبي – مثلا- فلا أمل له حتى في احترام المواطنين ،بله أصواتهم.
بين يدينا الرئاسيات الأمريكية،وما يكيل كل طرف للآخر ،من ضروب التقصير في حق الوطن؛على مرأى مواطنين منتصبين لتنفيذ قضاء الإعلام الانتخابي ،كلما تأسس على اليقين.
يكفي أن تُوظف "كلينتون" بريدها الالكتروني الشخصي لتدبير ملفات الدولة الخارجية ،لتنتصب أصابع الاتهام ،باصمة على حالة تهاون واستهتار بالمصالح العليا للوطن.
وآخر سقطات الجمهوري "ترامب"، في مراقي الصعود إلى البيت الأبيض ،شريط لا أغرب منه في تحقير النساء.
من لا يرفق بالمواطنات –وليس القوارير والثريات- لا حق له في الوطن ،مؤنثا كان أو مذكرا.
ويكفي ألا ينشر مترشح سجله المالي والضريبي ،بين يدي الوطن ،أو يفاخر بأنه شاطر في التلبيس ، حتى يسقط في أعين المواطنين . وللاعتبار، فهذا وطن،بدون تاريخ، لم يؤسسه غير رعاة البقر ؛لكن وطن البراري هذا ،والروث،عرف كيف يبني تمثالالحربة في قلب كل أمريكي.
مما حملتْه إلي النتائج من تصديقات كون الريع الديني الذي انتقل ،ذات مناكفات مع اليسار، من يد الدولة إلى دهاليز الدعوة ؛هو القنبلة الانشطارية، المبرمجة لتنفجر في وجه الوطن.
كانت بين أيادي أمينة ،تعرف كيف تتحكم في فتائلها ،لكن عوادي السياسة تخطفتها ،كما فعل القرامطة بالحجر الأسود، وأعادت برمجتها على هواها ؛لتدخرها للأزمنة التي تعرف وتنتظر.
أزمنة تُطل،اليوم، فعلا على بعض الدول التي فرطت في قنابلها ،لدواعي شتى ؛وهاهي اليوم مرغمة على سماع دويها فقط ؛ولا تراها إلا خرابا يبابا ،تتعالى التكبيرات الحمقاء على جنباته. يكبرون للخراب ،كما نكبر نحن للصلاة.
التكبير هو هو ،فمن أين الدمار؟ من التفريط في القنبلة،وعدم اقتفاء أثر النوايا،وليس الأقدام فقط ،وهي تتأبطها.
إن الأمر أكثر من فرحة الانتصار المستحقة ،انتخابيا، لحزب العدالة والتنمية ؛و كنا سنفرح معهم – خصوصا معشر اللامنتمين مثلي - لو كان نصرهم جزاء نضالهم السياسي الديمقراطي،في المركز والمحيط.
نضال يتم تصريفه من خلال الأساليب المتداولة بين الأحزاب كلها ؛حتى خارج الوطن: عقيدة سياسية،برامج،خطط ،مؤتمرات وملتقيات، تواصل،استلام السلطة،التنفيذ،الترحيب بالمعارضة ..
لاهم من هذا ولا من ذاك، إلا تظاهرا وتقية؛واليكم الأدلة:
*يعتبرون - وهذا بناء على ملاحظات ميدانية دقيقة- كل مساجد المملكة مقرات حزبية لهم ؛ وبهذا يغطون كل الأحياء،إضافة إلى مقراتهم الرسمية التي يدلون بها للإدارة الترابية،في كل مدينة وإقليم ،وهم أحرار فيها.
أغلب أطقم المساجد،وأغلب جمعياتها ،في اجتماعات متواصلة ،تَواصُلَ الآذان والصلاة ،على مدار الزمن.
حتى الوقوف لهذه العبادة الجليلة،بالمساجد ،يُخضعونه لضوابطهم الشرعية المستوردة :
شئت أم أبيت سيقتحم عليك صلاتك جارُك الذي تخاله مصليا مثلك، ليؤطرك حزبيا ،ولو بالتحرش بقدميك وجوربيك؛رصا للصفوف ،حتى لا يعبر الشيطان . هم يعرفون بأن الشياطين هي غير ما نعتقد؛إنها الأحزاب الأخرى التي يرصون الصفوف لدحرها ،حتى لايتحدث أحد بعدها عن الديمقراطية الكافرة،وعن الوطن بديلا لدولة الخلافة.
يُخول الرجل لنفسه إمامتك ،وتقويم وقفتك ،ووضع يديك ؛ولو جاز له أن يدخل عليك المرحاض ليراقب استنجاءك لفعل. صلاة هذه أم نضال حزبي؟
حينما يفرغ الناس لمشاغلهم ،بعد الصلاة،يلتئم شمل الأئمة – بالفعل وبالقوة- لتقييم الصلاة سياسيا،ورفع التقارير النضالية. الكثير من السكان يعانون ،عقب كل صلاة فجر ، من "تشرميل " خاص بهذه الفئة من المصلين:
يتناصحون،يتذاكرون،يقهقهون ،يناضلون،تحت الشرفات ، والناس نيام ،أو يراودون النوم ،معاودة ، بعد الصلاة..
*يعتبرون كل جنازة ركحا للدعوة ،وللتأطير الحزبي ؛وبهذا يصبح حتى الميت مناضلا ،بموته ، في حزب الدعوة.
حتى الموت يساهم في الحملة الانتخابية المفتوحة دوما؛ولو أوتينا علم الهدهد الذي تعرفون ،لدلنا على حصيص كل ميت مما في الصندوق. رحم الله من نصر بموته حزبا.
وتحضر في المقابر وجوه ليست لا من أهل الميت ولا الميتة. يركبون على أكتاف الميت ،وعلى حزن الأسر في لحظات ضعفها ،ليمارسوا جشعهم التأطيري الدعوي .حتى المقابر غدت مقرات حزبية ؛ولايمكن ألا يكون بيننا من لم يعش مثل هذا "النضالالحزبي" الجنائزي.
وأكثر من هذا يُغِير دعويون ،حزبيون، على ليلة الميت بمنزله ؛رغم وجود قراء طلبت الأسرة خدمتهم القرآنية،وفق الجاري به في مجتمعنا. أحيانا تقع مشادات بين هؤلاء وأولائك ،تنتهي بالتراضي لأن المهاجم يصرح بأنه لا ينتظر أجرا .هو من "أهلالله " الذين لا يقنعون بغير عطاء الصناديق الانتخابية.
وقل مثل هذا في كل مناشط ومكاره المواطنين.
*قبل عيد الأضحى بيوم أو يومين ،كانت زوجتى شاهدة على ما أخاله رشوة انتخابية شرعية،بمسمى الهبة أو الصدقة:
أطلت من الشرفة لتجد امرأة فقيرة ،من حالها، تتسلم خروفا ،من جماعة دعوية ؛ من حالها أيضا.
كان الأمر سيكون عاديا ،لولا أن لسان المرأة انطلق لا هجا بالشكر حد التلعثم من شدة الانفعال.وأغرب من هذا تسلمت من الجماعة هاتفا مفتوح الخط،لتكمل شكرها المنفعل لصاحب الشأن ،حيث هو في مركز إدارة الحملة،بالخرفان، قبل الأوان.
في مقر من المقرات التي ذكرت ..مقرات تحوزها ضمن ما تحوز من أشكال الريع العقاري الديني .
*أضيف إلى هذا كل الأنشطة الدعوية الحزبية التي تتسربل بسربال الخير ،وإغاثة اللهفان،الصديان والغرثان ؛خصوصا في مجتمع اغلب أياديه سُفلى ،وأغلب عقوله مُغيبة ،من فرط ما فعله بنا تعليم متخلف ؛تعليم "احفظ واعرض" كما عبرت أمينة يسار صاعد ,بالكاد يمتلك مقره المركزي،ويجهل كل الجهل كيف يناضل نضال التحرش بأقدام المصلين ،ونضال الموت طلبا للحياة الانتخابية.
ومن فرط ما أحدثه فينا اللاتمدرس،الهدر المدرسي ،وبطالة الخريجين ،ليطمئن كل ذي جهل أن الأمر سيان ،تعلمتَ أم جهلتَ.
* وفي هذا السياق الدعوي ،الساحق والماحق،والذي لم يولد بعد من يشق له غبارا، يُحَدث الأمين العام لحزب العدالة والتنمية باقي الأحزاب- في البرلمان ،وحيثما خطب، عن النساء "الثريات" والقوارير؛تنويما لا غير، لمعارضة يراها دائما بعينينحمراوين:
لا أكثر نضالا دعويا من نساء حزبه ،فهن دائما نحْلات حاضرات حيث لا يمكن أن تتصور.
حاضرات في كل الولائم العائلية للحث على الحجاب ،ومحاربة الكوكاكولا ، وبرتقال إسرائيل ..
حاضرات في إعداد الحلويات الاخوانية ،وتدفيف الأعراس تبريدا ،حتى لا تتثنى أنثى.
وقبل هذا هن حاضرات قبل الحب وأثناءه ،وفي كل رسائل المخطوبين حتى يصلا إلى عش الزوجية. لا أصعب من زواج الفتيات في أيامنا هذه ،ولا أسهل منه إذا كنتِ ستجعلين الصندوق يلد قبل فراشك.
وهل سلمت إمارةُ المؤمنين؟
كان المؤمل من هذه المؤسسة التي استبق بها بعض كبار الوطنيين- مبادرة منهم وليس من الملكية - الفتنَ الدينية والحروب التي نراها اليوم تعصف وتدمر الأوطان ،وتشرد المواطنين شَذَرَ مَذَرَ؛ مما حمى هذا الشعب من الانقلاب الاخواني العالمي علىربيعه وحركته ؛ وحمى حتى اخوانيي المغرب – بقبولهم في السلطة،كما أفادني أحد المعلقين النابهين - من محيط دولي نَهَدَ لحرب الارهاب ،(كان المؤمل)أن تُلجم لسان كل دعوي حزبي عن استثمارها لأغراض انتخابية ؛كما حصل ،تصريحا،مع اسم الملك والمؤسسة الملكية.
لا يغيب على المتتبعين أن الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ،لا يذكر هذه الإمارة إلا في معرض الدفع بأطاريحه الدعوية السياسية؛ حينما يواجِه المطالب الحقوقية العامة والجمعوية، التي يراها مصادمة للدين. يستقوي بها ليقمع الاجتهاد والنقاش،ليسإلا ؛أما هواه فهو مع الخلافة الراشدة ،وفقه الحنابلة،وفق النهج التيمي.
ومن هنا لم تسلم ، في عمل القوم ،حتى إمارة المؤمنين ، من اعتبارها مؤسسة تخدم أهداف الحزب ،وليس جمع لُحمة التدين المغربي ،الأشعري العقيدة ، المالكي المذهب.
وكأن التكليف بتشكيل الحكومة صدر عن أمير المؤمنين ،لصالح المؤمن الأول في الوطن.وكأن الإمارة مقر سام للحزب ،يوظفه متى يشاء ،وينتقي من اختصاصاتها ما يرد به على المعارضة ؛وكأن هذه المعارضة،وهي مسلمة طبعا، لا تمت بصلة إلى هذهالمؤسسة الحصن ،إن لم تُعتبر معارضة لها.
لم يدُر بخلد من بادر ،دستوريا ،بهذه المؤسسة،أن تصبح ، في يوم ما،سندا حزبيا ،مزعوما، لمن يحاولون القعود بالوطن أرضا؛جسدا لا اجتهاد له ولا حراك.
نتائج انتخابية خطيرة :
لأن الصراع غير متكافئ، ومن مُتِّع بكل هذا الفيض من الريع الديني ،يقاسم – أيضا وأيضا - بقية الأحزاب حتى ما تخصصه الدولة لها من دعم مادي. يأخذ التسعة وتسعين نعجة،ثم يضيف حتى النعجة المائة. وهل يستوي من رُيِّع َبمن لم يُرَيع؟
هل دخلتْ كل الأحزاب الانتخابات ،بنفس العُدة والرباط ،حتى نُخضعها كلَّها لترتيب واحد ،في لائحة واحدة؟
أما كان يجب أن يُفرد حزبُ العدالة والتنمية بمجرة انتخابية خاصة ،ثم ننتقل إلى كويكبات الأحزاب الأخرى التي لا تعرف حتى من أين تؤكل كتف النعجة المائة ؟ إنها إذن قسمة ضيزى.
يرسب محمد الخامس، علال الفاسي ،المهدي بنبركة،عبد الرحيم بوعبيد،اليوسفي ،بوستة ،حرضان وبنسعيد ،وغيرهم في امتحان ابن تيمية ،لأنهم راهنوا – فقط- على الإمام مالك..
وتأتيهم صيحة السخرية من القرضاوي مهنئا الأخ بنكيران بالنجاح في الدعوة والدولة معا.
هو كبير الاخوانيين الذين أفسدوا على الشعب المصري دينه ومعاشه.هو نفسه الذي لا يُؤاخذ السفاح البغدادي إلا ببعض التشدد في القتل.
إذا لم تسترجع الدولة الريع الديني من العدالة والتنمية ،بإلزامه بمراجعة قوانينه ؛بالكيفية التي تجعل منه حزبا مدنيا لا أنبياء سياسيين له ،عدا نبينا جميعا المصطفى عليه الصلاة والسلام ؛الذي ترك الأمر شورى للناس ؛فما على بقية الأحزاب إلا أنتَحُل مدنيتها ،وتعلن عن دينيتها ؛بمسميات جديدة:
حزب الاستقلال والنصرة،الحركة الشعبية والشيعية،حزب الأصالة المكية والمعاصرة المدنية،اليسار الاشتراكي الراشدي،التجمع الوطني لأحرار الحنابلة..وغير هذا من الأسماء الريعية التي تُدر أصواتنا ،ومقرات سياسية مجانية..
هل نفرح ؟ لا حزب العدالة والتنمية بالباب ،ليصرف فرحنا أصواتا..وهو لا يعرف أنه يغامر بالوطن،وحتى بنفسه ،حينما "يجعل الضرغام بازا لصيده"..
هل عندنا حزب قوي؟ لا عندنا تدين غُفل..
في الحلقة المقبلة: محبس الريع السياسي.
رمضان مصباح الإدريسي.