مرة أخرى يثبت المغرب السياسي أنه يتغير. وحتى بالنسبة للمشككين في نوايا الدمقرطة في أوساط الرأي العام، ومن داخل الأحزاب الفائز منها والخاسر في الانتخابات، يقطع الملك محمد السادس بوضوح مع لحظات الارتياب التي نشرها كثيرون هنا وهناك، ويعلن من القصر الملكي بالدار البيضاء أن التغيير الديمقراطي في المغرب ليس قوسا، إنه خيار استراتيجي لا يقبل النكوص.
وفي كل مرة يثبت الملك أنه ضامن الخيار الديمقراطي. وحتى إن كانت قوى المحافظة في اليسار كما في اليمين، وسط الإسلاميين أو الحداثيين، مستعدة لإبرام صفقات ضبط إيقاع التحول السياسي نحو الديمقراطية، يؤكد الملك أن الصفقة الوحيدة الممكنة هي التي تخرج من صناديق الاقتراع ومن تعاقد الوثيقة الدستورية.
كثير هم المتوجسون قبل سابع أكتوبر. وحزب العدالة والتنمية كان في مقدمة أولئك الذين غذوا مشاعر التشكيك في التطبيع مع صناديق الاقتراع، لكن وحين تم الإعلان عن فوز «البي جي دي» في سابع أكتوبر، عاد الجميع إلى الافتتان بهذه الديمقراطية، والحزب الذي اتهم الإدارة الترابية بدعم خصمه اللدود، عاد بعد النتائج ليقول إن «استحقاق السابع من أكتوبر محطة مضيئة».
وخلف المشهد كان هناك ملك يحرص على ضمانه الشخصي لحرية المنافسة الانتخابية.
لكن المتوجسين لم يستوعبوا هذه الرسالة، وبعد أن اتضحت خارطة مجلس النواب، بدأت هواجس أخرى في الانتعاش: ماذا لو عين الملك رئيسا للحكومة من خارج منصب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية؟ ولإعطاء متمنيات النكوص شرعيتها وقوة الإقناع، عاد البعض إلى حكاية الغضبات والأمزجة، وحاول خلق توجه عام يفيد أن الملك لا يقبل بابن كيران رئيسا للحكومة المقبلة.
ومرة أخرى ثانية وثالثة، يعود الملك إلى تأكيد أن الخيار الديمقراطي ليس قوسا نغلقه. وبالنسبة لي لم يكن ذلك مفاجئا، كنت أومن دائما بأن الملك الذي عرض خطاب تاسع مارس، وشدد في أكثر من توجيه لرئيس الحكومة على ضرورة الاحتكام للدستور، وظل يرفض على مدى سنوات أن يكون حكما في صراعات حزبية، لا يمكن إلا أن يكون مع الدستور وروحه، مع المنهجية الديمقراطية وقداستها.
في قصره الملكي بالرباط، يوقع الملك محمد السادس صفحة أخرى إضافية في كتاب ربط الحكومة بصناديق الاقتراع، وربط مؤسسات السيادة المنتخبة بإرادة الأمة. إنه يقول وباختصار شديد: في المغرب ملكية لا تسمع لغير صوت الشعب وتعاقد الدستور.
ومن قال إذن إن المغرب السياسي لا يتغير.
في تاريخ مغربنا المستقل هي المرة الأولى التي يقود فيها حزب سياسي ولايتين حكوميتين متتاليتين بناء على صناديق الاقتراع. وهي أيضا سابقة فريدة تلك التي يقود فيها أمين عام حزب سياسي منتخب الحكومة لولاية ثانية، ومنذ هذه اللحظة السياسية ينفتح أمام البلد مسار آخر: وحدها إرادة الأمة مصدر مؤسسات السيادة المنتخبة.
لكن المتوجسين لن يلتقطوا الإشارة مرة أخرى، هم مدمنو توجس مرضي، وبعدما خسروا رهان ألا يتم تعيين ابن كيران رئيسا للحكومة، سيبدؤون في ترويج السيناريو الآخر: ماذا لو فشل ابن كيران في تشكيل الحكومة؟ إنه ليس احتمالا بريئا، هم يصدرونه عن دهاء بالغ، ومكر يريد الانقلاب على صندوق الاقتراع باسم الدستور وفراغاته.
في كثير من الصالونات والكواليس، تتردد نفس الحماقة: سيفشل ابن كيران، وسنعيش أزمة تحالفات تنتهي بتدخل الملك لتعيين شخصية تقنقراطية لقيادة حكومة ائتلافية !!.
ومؤخرا سألني زميل صحفي من موقع «كشك» التابع لمجموعة «آخر ساعة» عما إن كان ابن كيران سيفشل في تشكيل الحكومة، وفي جوابي نبهته إلى أن تشكيل الحكومات يواجه دائما صعوبات، لكن الذين يروجون لهذا الفشل يفترضون أن القصر هو من سيدير خيوطه، وهذا خطأ فادح، الصعوبات ستأتي من تعقيد المفاوضات التي يريد معها كل حزب تعزيز مواقعه ومكاسبه، وليس من داخل القصر الذي أتثبت ويثبت أنه أكثر حرصا على الدستور من كثير من مدعي الديمقراطية والحداثة الدستورية.
لست من المنبهرين أو المفتونين بشخصية عبد الإله بن كيران، وأنا من الذين تمنوا لو خسر العدالة والتنمية الانتخابات من داخل الديمقراطية وليس من خارجها، لكن ما يهمني في ابن كيران وحزبه هو أنهما كانا اختبارا قاسيا لخيارنا الديمقراطي. وبفضل الملك لم نغلق القوس الذي فتحناه قبل خمس سنوات… شكرا لكم جلالة الملك.
بقلم يونس دافقير.