لا شك أن الانتفاضة الفلسطينية الثالثة قد انتهت، وعلى الجميع أن يعترف بمسؤوليةٍ وأمانةٍ، وبتواضعٍ ودون مكابرةٍ، في الذكرى السنوية الأولى لانطلاقتها أنها انتهت ولم تخبُ، وتوقفت ولم تهدأ، وأنها لم تتم عامها الأول بعنفوانها الذي به انطلقت، ولا بقوتها التي بها عرفت، ولا باندفاع شبابها الذي ميزها، وعفوية عملياتها التي صبغتها، فلم نعد نسمع بعمليات طعنٍ أو دهسٍ، ولا بمحاولات قتلٍ أو خطفٍ، بقدر ما نسمع عن عمليات قتلٍ إسرائيلية لمواطنين فلسطينيين من الجنسين ومن كل الأعمار، يدمٍ باردٍ ودون مبرر، بحجة أنهم يهددون حياة جنودهم، ويحاولون طعن ودهس مستوطنيهم، مما يدعو الجنود والمستوطنين لإطلاق النار عليهم، عملاً بالقوانين العسكرية التي عممتها قيادة أركان جيش الاحتلال.
أليسمن حقنا في الذكرى السنوية الأولى أن نتساءل عن أسباب توقف الانتفاضة وفشلها في تحقيق أهدافها، وعجزها عن مواصلة فعالياتها كسابقاتها الأولى والثانية، مع العلم أن الفلسطينيين لم يبخلوا عليها بدمٍ ولا مال، ولا بروح أو حياةٍ، بل غذوها بأرواحهم ورووها بدمائهم، وتسابق في دروبها الشبان والشابات، والصبية والكهول، والرجال والنساء، وأبدعوا في عملياتهم ونوعوا، وشكلوا فيها وبدلوا، واستخدموا أبسط ما يملكون في المواجهة، رغم علمهم يقيناً أن سكينهم قد لا تقتل، وأن عجلات سياراتهم قد لا تدهس، وأن مستوطني العدو وجنوده سينجون من عملياتهم، وأنهم وغيرهم سيطلقون النار عليهم بقصد قتلهم، وعلى الرغم من ذلك فقد تقاطر المقاومون تباعاً، وتنافسوا شجعاناً، وأقدموا على مواجهة عدوهم برباطةِ جأشٍ وثبات.
فهل أن السبب في انتهائها وتوقفها هو عنف سلطات الاحتلال وتطرف الإسرائيليين، والسياسة المشددة التي انتهجها وزير حرب العدو وقيادة أركانه، والأوامر الصارمة التي كان جنود الاحتلال يحرصون على تنفيذها والالتزام بها، والقاضية بإطلاق النار على الفلسطيني أياً كان حتى الموت ومن نقطة الصفر، بغض النظر عن أن الضحية كان يشكل عليهم خطراً أو أن حالته لم تكن تسمح له بالتحرك من مكانه، فضلاً عن أن يحمل سكيناً وهو جريحٌ ينزف ويطعن بها جندياً أو مستوطناً إسرائيلياً، إلا أن عدد الشهداء الذين سقطوا بهذه الطريقة التي تشبه عمليات الإعدام الميداني بدمٍ باردٍ، بلغ أكثر من مائتي شهيد، إلا أن هذا العدد وأضعافه من الجرحى والأسرى لم يقعد الفلسطينيين، ولم يفت في عضدهم، ولم يمنعهم من مواصلة الانتفاضة، رغم الأثمان الباهظة التي تكبدها الشباب الفلسطيني من الجنسين معاً.
أم أن الفلسطينيين استكثروا التضحيات واستعظموا المعاناة والألم، وشكوا من المقاومة وحدهم، وتألموا من تخلي إخوانهم وأشقائهم عنهم، وشعروا بأن العدو يستفرد بهم، ويستغل انشغال العرب بهمومهم وعدم تضامنهم معهم، فضلاً عن صمت المجتمع الدولي أو تآمرهم مع العدو ضدهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ولم يعودوا قادرين على المواصلة، فآثروا وقف الانتفاضة والامتناع عن القيام بفعالياتٍ تعززها وتبقي على جذوتها مستعرة، وأصغوا للأصوات المنادية بوقفها، والمحرضة عليها، والتي دأبت على تشويهها وتقزيمها والاستخفاف بها، متهمةً إياها بأنها عبثٌ وسخفٌ، وأنها مضيعة للجهود والأرواح، وسببٌ للفوضى والاضطراب، وأنها السبب في ازدياد التطرف في أوساط الإسرائيليين، الذين باتوا يتفقون على مواجهة الفلسطينيين وتحدي انتفاضتهم.
الحقيقة أن أياً من الأسباب السابقة لم تكن هي السبب المباشر في توقف الانتفاضة، وإن كان لبعضها من تأثيرٍ على مسار الأحداث وفعالية الانتفاضة، فإن تأثيرها كان إيجابياً، ولم يكن عكسياً أبداً بغض النظر عن صعوبة الظروف المحيطة، الذاتية والموضوعية، وانشغال العرب بأنفسهم، وتآمر المجتمع الدولي عليهم، فهذا الحال نفسه كان قديماً ولا زال، لم يتغير ولم يتبدل، يعرفه الفلسطينيون جيداً، إذ لم يكونوا منبتين عن واقعهم، ومعزولين عن عالمهم، ولم يكونوا يعيشون الوهم ويصدقون الكذب ويأملون في السراب.
والفلسطينيون يعرفون أن عدوهم شرسٌ وعنيدٌ، وأنه متطرف ومتشدد، وأنه يسعى لقتلهم ويخطط لاجتثاثهم وطردهم من أرضهم، وأنه لا يتأخر عن التضييق عليهم والإساءة إليهم، فهو بالنسبة لهم عدوٌ، والعدو لا يحمل الصداقة ولا يتمنى الخير ولا يسعى إلا للفساد والخراب، وهم قد اعتادوا على ظلمه، وتمرسوا على عدوانه، وقد حفظوا طبعه وعرفوا أسلوبه، فلا يتوقعون منه غير ما يقوم به ضدهم كل يومٍ، منذ أن اغتصبت عصاباته فلسطين حتى اليوم، ولهذا فإنهم يقاومونه ويقاتلونه، ويتحدونه ويقفون في وجهه، ويؤمنون يقيناً أن المستقبل لهم، وأن النصر عليه مهما طال الزمن سيكون حليفهم.
لعل الأسباب الحقيقية التي أجهضت الانتفاضة ووأدت جهودها وفعالياتها هو الانقسام الفلسطيني والاختلاف الداخلي، وعدم قدرة قادتهم وزعمائهم، الذين انشغلوا بمشاكلهم عن هموم الوطن ومصالحه، على تشكيل قيادة موحدة للانتفاضة، وتنسيق جهودها، ورعاية أبنائها، فقد عجزوا عن احتضان شبان المقاومة وتبني عملياتهم، وتفعيل نشاطهم، وتأطير صفوفهم، ورعاية مبادراتهم، ولم يبذلوا جهداً لتطوير عملياتهم وتوجيه اهتماماتهم، الأمر الذي حدا بالمخابرات الإسرائيلية إلى وصف الانتفاضة بأنها يتيمة ولا أب لها، ولا يوجد من يرعاها ويهتم بها، وكانوا قد أطلقوا اسم "عمليات الذئب المنفرد" على عمليات الشبان الفلسطينيين، لعلمهم أنهم يعملون وحدهم وبقرارٍ منهم، دون تنسيقٍ مع قيادة الفصائل، وبدون أي مساعداتٍ أو معلومات وتوجيهاتٍ من القوى الفلسطينية.
القيادة الفلسطينية بكل مستوياتها السلطوية والفصائلية، هم المسؤولون عن إنهاء انتفاضة شعبهم، ولن يغفر لهم الشعب يوماً جريمتهم، ولن يسكت عن مؤامرتهم، وسيحفظ التاريخ قذارة أدوارهم، فقد قصروا وأهملوا، وجبنوا وتراجعوا، ولم يكونوا بمستوى شعبهم الذي خذلوه، ولا على قدر همة وعزم شبابهم الذي سجنوه، بل إن بعضهم تآمر على الانتفاضة والتف عليها، وحال تثبيطها وإخمادها، وغيرهم نسق مع العدو الإسرائيلي ونفذ نيابةً عنه عملياتٍ أمنيةٍ بقصد وأد الانتفاضة، وتجفيف منابعها من الشباب الثائر المتقد، والحقيقة أن هذا الفريق قد نجح فيما أراد أو فيما طُلب منه، فأفشل الانتفاضة وخان دمائها وفرط في حياة وحرية أبنائها، وخدم العدو فيما عجز عن تحقيقه بكل قوته وسلاحه في الانتفاضتين الأولى والثانية.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي