“نحن لم نتعلم من حرية التعبير سوى الشتائم”.
قالها جلال عامر ذات يوم… ويمكن اليوم أن نضيف للشتائم: التخوين، التصنيف والخندقة، الأحكام القيمية الجاهزة، إلخ.
نحن ديمقراطيون جدا… نطالب بالديمقراطية… لكننا نغضب في وجه من يخالفنا. نصدر الأحكام في وجه من يختار طريقا مختلفا أو لونا مختلفا أو حتى قدرا مختلفا. ديمقراطيون، بشرط أن يشبهنا الآخرون… كل الآخرين، في اختياراتنا، في تحليلاتنا، في قراءاتنا…
مناسبة هذا الكلام هو متابعة ما يواكب الحملة الانتخابية من تصنيفات وتصنيفات مضادة: أنت ترفض التصويت للعدالة والتنمية؟ إذن أنت مع الاستبداد ومع التحكم وخصوصا… أنت مع البام. أنت ترفض التصويت للبام؟ إذن أنت ضد الحريات الفردية وتريد أسلمة المجتمع. تنتقد نبيلة منيب؟ أنت تكره الشعب. تريد التصويت لفيدرالية اليسار؟ لقد تبعت موضة لن تغني ولن تسمن من سياسة.
مثقفون يوقعون عريضة لصالح نبيلة منيب… وآخرون يوقعون عريضة تحث على عدم التصويت للعدالة والتنمية… وأنا، كالكثيرين غيري، بين هؤلاء وأولئك نتأمل: أين الديمقراطية من كل هذا؟ أين الحق في الاختلاف؟
شخصيا، أستطيع أن أعبر عن موقفي الخاص، لكني أعتبر أنه ليس من حقي أن أحكم على من يختارون موقفا مغايرا. ولعل هذه أبسط أبجديات الديمقراطية. أليس كذلك؟ أرفض إذن بشكل شخصي التصويت لحزب يوجد، بالصوت والصورة، الدليل تلو الآخر على استغلاله للدين سياسيا، لكنه يتنكر لما قاله وما يقوله، كلما بدا له في الأمر بعض خطر… حزب يتأرجح في خطابه بين النقيض والنقيض. بين الماء والنار. بين “نحن حققنا المعجزات” وبين “راه بغينا نديرو ولكن ما خلاوناش”. بين خطاب يشتكي فيه من “التحكم” ومن “التماسيح والعفاريت” التي تمنعه من الإنجاز، رغم أنه لم يعطنا مثالا واحدا لشيء حاول أن ينجزه ومنعته التماسيح والعفاريت منه (بالمناسبة، شكرا للزميل والصديق هشام روزاق الذي كشف في مقال على جريدة الأيام أن بنكيران “استلهم” عبارة “التماسيح والعفاريت” من أغنية لعادل إمام في مسرحية الزعيم، متوفرة على اليوتوب)؛ وخطاب آخر يفخر فيه بـ “إنجازات”، أهمها تم تدشينه قبل 2011 بسنوات طويلة كقنطرة مولاي الحسن، القطار الفائق السرعة، ترامواي الدار البيضاء والرباط (زعما محطة “نور” وترامواي الرباط والبيضاء حتى هي من إنجازات الحكومة؟ إيوا الله يعطينا وجهكم). والكارثة هي حين تنشر وزيرة سابقة هذه “الإنجازات” على صفحتها. زعما دابا الوزيرة نفسها تعتقد أن كل شيء بدأ العمل به بين 2011 و2016 هو من إنجاز حكومة بنكيران، بما فيه ما شرعت حكومات سابقة في الاشتغال عليه (التغطية الصحية الإجبارية مثلا، بدأ الاشتغال عليها في حكومة عبد الرحمان اليوسفي، التعويض عن فقدان الشغل، اشتغل عليه جمال أغماني في حكومة عباس الفاسي، وهذه مجرد أمثلة)؟
ثم، لماذا، في الأساس، سأصوت لحزب يعترف هو نفسه بأنه لم يستطع أن ينفذ برنامجه، “حيت ما خلاوهش”؟ هل أصوت له، لكي يبدأ ولاية جديدة من خطاب المظلومية (وينفذ فينا أفظع سياسات البنك الدولي)، ثم يأتينا في آخر الولاية لكي يقدم سلسلة من “الإنجازات” الخارقة، بما فيها تلك التي لا يد له فيها ولا أصبع حتى؟
إلى جانبه، هناك أيضا حزب يتحدث عن الحداثة، لكنه يريد أن يطبقها بالأعيان، وببعض الهاربين من البيجيدي، وبكثير من الإبهام في المواقف. حزب لا يعرف من الحداثة إلا معاداة العدالة والتنمية. ما هي مواقف البام الحقيقية من حرية المعتقد، من القوانين المقيدة لحرية التعبير وللحريات العامة والخاصة؟
وبين هذا وذاك، أحزاب تشكل نماذج سياسية بعضها لم يعد يمثلني… وبعضها الآخر لم يشبهني يوما.
لذلك، فقد اخترت شخصيا أن أساند فيدرالية اليسار الديمقراطي وأنا أتمنى أن يشكل هذا البديل معارضة “تشبهنا” في برلماننا المقبل. بانتظار آفاق أفضل.
إلى هنا، يبدو الأمر عاديا جدا: أن أعبر عن قناعة ذاتية تعنيني. لكن غير الطبيعي وغير المقبول أن نوقع عريضة ندعو فيها لعدم التصوت لحزب معين. من الصحي ديمقراطيا أن يعبر أي فاعل عن موقفه الشخصي الرافض للتصويت لهذا الحزب أو ذاك، وأن يشرح أسباب اختياره لتيار آخر… لكن غير المقبول هو أن ندعو المواطنين لعدم التصويت لتيار سياسي معين، مهما اختلفنا معه. أليس في هذا بعض من ممارسة الوصاية على الأفراد؟
وغير العادي أيضا أن نكتشف كيف تتم خندقة الأفراد، حتى حين يصرحون باختيارهم بشكل واضح لا مكان فيه للبس: هذا مخزني متخفي وهذا إسلامي يمارس التقية وهذا بيجيدي وهذا بامي… يكفي أن تنتقد خرجات بنكيران لكي تصنف كبامي. ويكفي أن تنتقد إلياس العماري لكي تعتبر مناهضا لقيم الحداثة.
شكرا مرة أخرى لجلال عامر… فقد قالها ذات يوم: “نحن ديمقراطيون جدا. نبدأ نقاشاتنا بالحديث عن السياسية وننهيها بسب الأم والأخت”…
بقلم سناء العاجي