.. بأي ذنب خُطِفت؟
بكى كل ذي قلب رحيم ،في هذا الوطن ؛وحتى خارجه ،وَأْدَ الفرحةِ في أعماق أم مغربية، قضت تسعة أشهر وهي تُرتب العرائس ،وتسقي الأزهار،لاستقبال فلذة أحلامها؛ بَذْرَة مَوعودة للخِصب والنماء ،تستنبتها في روعة الحياة ،هذه؛تنهل من دَفَقها ،ضمن طيور الجنة في بلادي: هؤلاء الذين تخجل البراءة من نصاعة براءتهم.
طاف عليها طائف ،أو طائفة، من أزقتنا الخلفية ،التي لم نُبدد عتمتها بِوهَّاج التربية، وإكسير الأخلاق ،ثم بالردع، إن بدا فعلا أن الله "يَزَعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
حنا عليها الحضنُ،عصفورة بهية ،دقائق فقط؛ثم تَخَطَّفها نسر متربص اخترق كل حُجُب الأمومة.
ثم غابت في كل مجاهلنا ،التي أبدعناها،زقوما زقوما، وحنونا عليها "حنو المرضعات على الفطيم"،إلى أن صارت وحوشا كاسرة – نُلطِّفها فقط، ب"التشرميل" - تتربص بنا ،حتى في الشوارع الكبرى ،نهارا جهارا.
رُتيلاء سوداء ،سامة، نصبت على الأمومة والحياة،ثم عادت إلى الشقوق المظلمة في جدار المجتمع.
لنقل "شَرملت" بطريقتها أُمّا في عز بهجتها. وبطريقتها أيضا جعلت صرخة الولادة،والأوكسجين الأول، صرخة ألم حقيقية تحتج بها المولودة على حياتنا التي أصبحت غير آمنة.
يحق للأب أن يُروعنا بصرخة الغبن،وأن يتعرى أمام الناس،احتجاجا، ما دام في الوطن من يعيش على ذبح الأمن ،واستنشاق الجريمة.
في خطف الوطن:
نحن في الخريطة المغربية ،لكن أين الوطن؟
الوطن الذي أصبحنا عليه غداة الاستقلال ،مشروعا مجتمعيا متكاملا ؛راسخا في التاريخ ،ومنذورا للتدرج ،صُعَّدا في مراقي النماء،حتى يستوي " ديمقراطي الطبع شعبي النزعات" ،على حد عبارة أب الوطنية الحديثة ،المرحوم محمد الخامس.
الوطن الذي عَلَّم الوطنية عقيدة،قبل الدين ؛لأن الرسالة الإلهية لم تنزل على رؤوس ابل شاردة ، في الصحراء؛بل على قوم من العرب جمعتهم عقيدة الوطن أولا .
حتى القرآن الكريم ننسبه لمكة وللمدينة ولا نقول قرآن السماء،إلا سموا و تفخيما.
لم تُحارب الحركةُ الوطنية المستعمرَ ؛تخليصا للدين ،بل للوطن.
الدين راسخ في القلب ،وقد عَلِمتْ فرنسا هذا حق العلم ؛ومن هنا استهدفت بيضة الوطن فقط ؛ وسعت لتجفيف منابع الوطنية ،وليس جداول الدين ؛بل كثيرا ما كانت الطُّرقية المتخاذلة- وغيرها - عونا لها في وأد، أو اختطاف مولودة الوطن التي اسمها الوطنية.
في الوقت الذي كانت الوطنية شاكِية السلاح والرصاص،تلهج بالرفض ؛ كان بعض الدين شاكي المِسبحات، يُسَبح بكل خفيفة على الميزان واللسان، مما يُرضي النمر الدموي القادم من بلاد الغال.
"لا تحرك من لا يحرك ساكنا" عبارة استعمارية تُنسب ل"ليوطي"؛حينما استمرأ سكينة العلماء والأئمة، في جامع القرويين،فاعترض على الإصلاح الذي نادى به بعض الفرنسيين التنويريين.
لم ُتصَبْ أعمدة الجامع في دينها ،فلماذا تعترض على المستعمر؟ بل حُمَّ الجنرال،ذات مرض، ولازم الفراش،أسبوعا،ولم يجد فقهاء فاس أدنى حرج في إقامة ليالي الذكر والدعاء بالشفاء، لهذا العسكري الداهية، الذي عرف كيف يستميل الناس والدين معا.
لو لم تَطرُق الوطنية أبواب الدين ،وتنادي للوطن ،صلاة كالصلاة ؛لما أفتى من أفتى،و تحرك من تحرك،وثار من ثار.
كيف ضاع منا هذا الوطن الحَكمُ على الدين ،وليس العكس؟
كيف ضاع منا هذا الوطنُ الذي لم يكن يسأل الناس عن دينهم ،بل عن وطنيتهم؛وعن عدد الركعات في محرابها؛وعن مبالغ الزكاة والهِبات التي بذلوها من أجل فتح الوطن لأبنائه.
ولم يكن يسأل عن صيام التُّخمة و الجنة ،بل عن صيام التوفير ،ومقاسمة الغذاء ،قبل زكاة الفطر،مع يتامى الشهداء ،وأسر المقاومين المأسورين.
لم يكن هذا الوطن يُحَرض على الحج إلى معاقل الوهابية والسلفية لرجم الشيطان سبعا؛فهذا كان في متناول الجميع ،ولم تكن عليه عيون ؛وإنما إلى مرابع المقاومة والصمود لشل الآلة الاستعمارية،وتعلم مفردات الوطنية .
لم يكن يستنكح نساءه ،جهادا،أو يعتبرهن ثُريات للزينة والفراش؛بل يربيهن – كالكرديات - مقاومات شرسات .
( من ينسى يَمينة المقاومة الوجدية ،وهي تُلقَى شبه عارية – اهانة ونكاية - في شاحنة ضمن أسرى المقاومة من الرجال؟
من ينسى زغردات التحدي منها ؛ومَن ينسى دموع الرجال – يومها - فرحا ،واطمئنانا على مغرب به لبُؤات من عيار يمينة)
لم يكن الوطن غبيا حتى يسأل عن دين المغاربة؛وهو يعرف أنهم في هذا الغرب الإسلامي منذ قرون ؛مرابطون على الثغور القصية ؛ليس استجماما ،وإنما صدا لصدور الخيل،وسيوف الفرنجة .فكيف يُسأل المرابطُ عن دينه؟
من خطف هذا الوطن الذي بناه الرصاص ،والطموح ،ورطوبة المعتقلات ،إلى أن استوى على السكة ؛وعلى بعد محطات فقط من الاستواء دولة للكرامة المصونة ،والحقوق الراسخة،والحريات الكبرى؟
من ألبسه المسوح المزعومة للجنة – ومن الجنة – وهي من أسمال قندهار ،التي تُصلي للخشخاش والدولار؟
من سَوَّد ألوان نسائنا ،وألبسهن العورة والخجل؟ من زج بهن في الحريم "مثنى وثلاث ورباع"؛وهو الواحد الأحد ،كأنه الإله؟
من اختزل شساعة الاختلاف والتنوع في الوطن،حتى غدا مجرد فاصلة بين مذهب ومذهب؟
من "طَزْطَزَ" على مصر الوطن؛بعدما استوى – مشروع خليفة -على عرش الفراعنة؟
من اختزل الوطن في أوراق انتخابية، تذروها الرياح في الأزقة ؛وحينما تلصقها الرياح الغاضبة بزجاج المتاجر والمقاهي ؛يُقهقه الكذب بين سطورها ،ليَعِد بوطن فيه كل شيء ؛حتى بسط الزرابي بالطرق السيارة،وليس بالمساجد فقط.
وطن بدون وطنية، لا يستحق أن يموت من أجله ولو عصفور.
وطن بدون وطنية لا تجوز فيه حتى الصلاة ،كمسجد ضرار.
هل سيعود الوطن كما عادت الرضيعة الى أمها؟
نعم ،شريطة توفر نفس الشروط التي توفرت لهذه الرضيعة التي منحها الله حضن الوطن ،بعد أن حُرمت من حضن أمها، أياما:
*إدانة شعبية شاملة وغاضبة ،لاحقت البومة السوداء،حتى خالت كل درب يرمي إليها بقاتل؛فلم تجد بُدا من نقل الرضيعة ،من وضعية الاختطاف إلى وضعية اللاجئة السياسية ،جوار القنصلية الروسية بالبيضاء .
الوطن المختَطف،وطن المعنى والعمق والباطن – بدوره - يوجد دائما ، مغيبا،في وطننا الفزيائي/المادي الظاهر.
فك الله أسره كما تدعو الشيعة لإمامها الغائب.
وهل يكفي الدعاء اللفظي لاستعادة المعنى الضائع؟
*انخراط كامل لجلالة الملك في هم أسرة فقيرة ؛ولم يهدأ البال الملكي حتى عاد إليها الدفء، والأمن الذي بايعت من أجله الوطن والسلطان.
*تجند مختلف أجهزة البلاد الأمنية، من أجل هدف واحد: إعادة السكينة إلى أسرة أصابت الصاعقة فرحتها وكرامتها ،وهي بين قض وقضيض الدولة.
( في الجواز الأمريكي توجد عبارة: أنت مواطن أمريكي ،ولا تنس أن الدولة يمكن أن تحرك حاملة الطائرات من أجلك)
هذا شرط الدولة على نفسها ، وحق المواطن على دولته)
*اشتغال متواصل للإعلام الورقي والرقمي من أجل تسريع الكشف عن مواطنة مختطفة من وزن رضيعة؛أكثر قليلا من وزن الريشة.
ها قد استوت كل شروط استعادة الوطن الذي أصبحنا عليه غداة الاستقلال.
وطن لا يُسأل فيه الناس عن دينهم ،تحقيرا لتاريخهم ،وأقدميتهم في الرباط والثغر الغربي.
وطن لا يروج فيه الدين بضاعة للمتاجرة؛ولا يقوم فيه الدستور مقام السياسي الكاذب.
وطن إن تداعى فيه عضو تداعت له سائر الأعضاء.
من أجل مثل هذا الوطن انتصبت "الأكورا" في قلب أثينا؛وأقسم غاندي أن يقطع الهند مشيا على الأقدام ،وخلفه الفقراء ،وليس الأغنياء.
ومن أجل مثل هذا الوطن هاجرت الدعوة النبوية إلى المدينة لبناء الدولة الوطن ،وليس للتبضع السياسي بالدين.
ولو لم يستقر الناس في الأوطان لما كانت هناك أديان.
وفي انتظار عودة الوطن ،تصبحون على وطن.
وهنيئا لمواطِنة مختطفة،عادت إلى حضن أمها بنتا للوطن الراعي.
وفي انتظار استعادة الحركة الوطنية الثانية؛فصلا مغربيا خامسا ؛صادقا ..
رمضان مصباح الإدريسي