بقلم سناء العاجي
متعب هو ليّ أعناق المفاهيم واستغلالها في غير محلها… متعب هو اغتصاب المعاني النبيلة، حين لا تصب تفاصيلُها في اتجاه أهوائنا. ومتعبة جدا هي جريمة التحرش بالقيم النبيلة لإجبارها على عناق مفروض مع إيديولاجيات لا يربطها بها هوى ولا ميل ولا عشق.
مناسبة هذه الكلام هو الحديث المتكرر، في الآونة الأخيرة، عن الحياة الخاصة وضرورة احترامها. طيب، “ما قلْنا عيب”… المفهوم نبيل وعظيم. لكن، لنكن موضوعيين ولو قليلا قليلا: ألا يتعرض هذا المفهوم النبيل الجميل لتحريف عظيم لمعانيه ونواياه وأهدافه؟ ألا يتم تسخيره، أحيانا بحسن نية وفي أحيان كثيرة جدا بهدف التضليل والتزييف، للتستر على عناوين وتفاصيل غير مرضية في رصيد البعض؟
أي نعم، احترام الحياة الخاصة للأفراد مسألة مبدئية نتفق عليها جميعا ونؤمن بها وعلينا أن نطبقها ما دمنا نسعى لبناء مجتمع ناضج. في نفس الوقت، فإن هذه الحياة الخاصة حين تكون في تناقض شامل مع الخطاب العام لفاعل سياسي أو ثقافي أو جمعوي أو غيره، فهي تستحق أن تكون محور تساؤل، بل ويجب أن تكون كذلك لأنها تطرح سؤال التناقض بين القول وبين الفعل. لنفكر في الأمثلة التالية:
نحن إذا اكتشفنا أن أحد أهم المدافعين عن حقوق المرأة يضرب زوجته أو يمنع ابنته من الدراسة في الخارج؛ فنحن لن نستغرب ذلك فقط من منطلق الدفاع عن حقوق المرأة وحرياتها، بل أيضا لأن من يغتصب هذه الحقوق وهذه الحريات يوجد في تناقض صارخ بين خطابه النبيل وحقيقة ممارساته. ونحن لو اكتشفنا أن فاعلا نشيطا في جمعية أو هيأة وطنية تكافح الرشوة، أعطى رشوةً لتسريع الحصول على وثيقة ما؛ سنندد بذلك ليس فقط لأن الرشوة مخالفة للقانون وللحقوق، بل لأن عملية الإرشاء قام بها من يفترض أنه يحاربها ويندد بها. ونحن لو سمعنا عن رئيسة جمعية لمناهضة العنف ضد النساء تشغل طفلة صغيرة في بيتها وتضربها، سنندد ليس فقط لأننا نرفض تشغيل الصغيرات وتعذيب عمال المنازل، بل لأن الفاعلة ستكون أذنبت مرتين على اعتبار أنها هنا “حاميها حراميها”. ونحن إذا عرفنا أن ذلك السياسي النبيل الذي يدافع عن القيم والديمقراطية وحقوق الإنسان وفصل السلطات وما دون ذلك، يعتبر أنه من الطبيعي جدا أن يلعب دور السي السيد المستبد والمتسلط، في علاقته بحبيبته أو زوجته وحتى أبنائه، سنتفاجأ، ليس لأنه سيكون الوحيد الذي يفعل ذلك، بل لأننا نتوقع ممن يدافع عن قيم معينة، أن يكون أول الممارسين لها. نفس الشيء في وقائع الحريات الفردية والحريات الجنسية بين الراشدين. هي حق للجميع… لا نزاع في ذلك. لكنها حين تمارَس من طرف من يبني وجوده على رفضها، ومن يندد بمن يمارسها، فهي تطرح لنا أكثر من سؤال.
…
باختصار، الحياة الخاصة للأفراد مقدسة حين تبقى في إطار التفاصيل الشخصية لأفراد عاديين. لكنها حين تتعلق بشخصيات عمومية وحين تترجم التناقض التام بين خطاباتهم العامة وممارساتهم الحقيقية، فهي هنا تصبح قابلة للطرح، بل وضرورية للنقاش. لأنها هنا لا تسائل ثنائية الخاص والعام فقط، بل تسائل القيم التي نُنَظر لها ومدى قدرتنا على تطبيقها. تسائل شفافيتنا ووضوحنا وثباتنا على مبادئنا. تسائل صدقنا كفاعلين.
هناك أيضا من قرر ليّ عنق الحقائق بشكل آخر حين اختزل الأمر في كون “الحداثيين” يهاجمون الإسلاميين بالقضايا الجنسية، التي يُفتَرَض أنهم يدافعون عن الحرية في التعاطي معها كشأن خاص. لنتفق على فكرة أساسية: الحرية الفردية للراشدين يجب أن تكون حقا مضمونا للجميع، بما فيها حريتهم الجنسية. لكن، حين يمارسها (في السر) أشخاص هم في الأصل (وفي العلن) من أشرس مهاجميها، فهنا يجب طرح السؤال تلو الآخر. المشكل هنا ليس في ممارستهم لها، فهذا مبدئيا حقهم الذي يجب أن يؤمن به كل حداثي تشبه سلوكياته خطاباته. لكن المشكل في كونهم يمارسونها سرا ويصرخون علنا ضدها.
من حق بنحماد والنجار أن يحبا بعضهما قبل الزواج وبعده (فقط للإشارة، فزواجهما الحالي لا يلغي تفاصيل حادثة المنصورية لأن الزواج، دينيا وقانونيا، لا يجُبّ ما قبله). من حق عبد الله بوانو واعتماد الزاهيدي (في حال ثبوت تفاصيل العلاقة) أن يحبا بعضهما. حتى موضوع الخيانة الزوجية هو تفصيل يخص زوجيهما ولا دخل للقانون ولا للأفراد فيه. لكن، حين يكون هؤلاء وغيرهم فاعلون سياسيون يبنون خطابهم ووجودهم على مهاجمة هذه الحريات، فمن الطبيعي جدا بل ومن الواجب مساءلة تناقضهم هذا.
الحرية الفردية حق يجب أن يكفله القانون للجميع… لكنه لا يمكن أن يكون هدفا نسدد صوبه السهام؛ ثم، حين نكتشف أننا بشر نحب ونعشق، نجعل منها رداء نستر به عورات خطاباتنا. شوية ديال الوضوح عافاكم!