لا تغضبني تفاهات المدعو «أبو النعيم» وما هو في الواقع إلا ابن للجحيم، يمكنه أن يقول دائما إننا صهاينة وكفار في هذه الجريدة دون أن يثير ذلك اشمئزازي، فالرجل أحمق والقلم عنه مرفوع مثلما ترفع عن ملاحقته القضاء والقانون.
لكني أتقزز فعلا من هذه المعزوفة التي تتكرر كثيرا هذه الأيام في المواقع الصحفية وجرائد من نعتبرهم نقيض مشروعنا الفكري. لقد اختاروا الطريق السهل في قتلنا الرمزي، أن يقولوا إننا «جريدة تابعة للأجهزة»، وأن يجعلوا هيئة تحريرنا عصابة معنوية يقودها الزعيم أحمد الشرعي.
وأحتاج هنا لتوضيح لابد منه، شرف لي أن أشتغل مع هذا الرجل، أولا لما أعرفه عنه من وطنية خالصة والتزام ديمقراطي لا يحتاج لإثبات، وثانيا لروحه الأخلاقية العالية وتواضعه الإنساني.
وفيما يهمني كصحفي، لم أسجل يوما أن الرجل تدخل في حريتي، لم يحمل يوما هاتفه ليوجهني نحو هذا الموضوع أو ذاك، لتبني هذا الموقف أو ذاك، وفي لقاءاتنا التي لم تتعد عدد رؤوس الأصابع منذ التحاقه بالجريدة مساهما ماليا قبل خمس سنوات، كان لديه دائما ذلك الإصرار المبدئي، على أن حريتي في التحليل والتعليق قيمة مقدسة وخط أحمر غير قابل للنقاش.
إنه القانون نفسه الذي يربطه بكل هيئة التحرير، وعكس كثير من المسؤولين الذين هم في نفس الوقت مستثمرون ورؤساء فعليون للتحرير يغيرون خطوطهم التحريرية بعدد تغيير قمصانهم وربطات عنقهم، يكتفي الشرعي بأن يكتب بين الفينة والأخرى على صفحات «الأحداث المغربية» وجهة نظره الشخصية، يوقعها باسمه الشخصي ولا يفرضها كافتتاحية ملزمة للصحفيين، وفي كثير من المرات يمكن أن تختلف معه وتعقب عليه، لكنه لا يوقفك عن العمل أو يقيلك من مسؤوليتك كرئيس للتحرير، يقول لك دائما، وبتواضع الكبار، إنها وجهة نظري والاختلاف ثراء ورحمة.
ولأن الرجل هكذا، فقد حافظنا طيلة السنوات التي التحق فيها بالجريدة على قيمة اختلافنا الداخلي التي ربانا عليها أستاذنا السي محمد البريني، قد لا نلتقي في وجهات النظر أو في تحديد زوايا المعالجة لموضوع ما، لكننا نمارس ذلك الإختلاف الضروري لإبقاء الديمقراطية أسلوبا في الحياة وليس شعارا للترف، نلجأ للتصويت أحيانا، وتسود ديكتاتورية الأغلبية في أحيان أخرى دون حاجة للتصويت، نغضب من بعضنا البعض في كثير من المرات، لكننا نعود إلى نفس القيمة والمؤسسة: الإختلاف، ومجلس التحرير، وذلك مصدر تفوقنا على صحافة الأشخاص والأمزجة والمصالح.
وتمنيت أكثر من مرة لو تعرفت لهذه الأجهزة التي يقولون إننا نشتغل تحت إمرتها، ليس اليوم فقط، لقد قالوا يوما إننا تابعون للجنرال حميدو العنيكري، وقالوا أيضا إننا امتداد لفؤاد عالي الهمة، وأضيف إلينا خط مباشر مع منير الماجدي وياسين المنصوري…. المهم أن كل طرف يحاول أن يصفي مع جهة ما في الدولة حسابه الشخصي يختارنا عنوانا لحروبه الجبانة، وكل فاشل يعجز عن مجابهتنا يقذفنا بالجاهز والمثير من التهم: «جريدة الأجهزة».
ولأن الغباء أحيانا يعمي الأبصار ويضعف الذاكرة، يعتقد خصومنا الفكريون أن اختلافنا مع الإسلام السياسي تمليه علينا الأجهزة وهو من بنات أفكار أحمد الشرعي، وكثير منهم يعرف أن كاتب هذه السطور ، على الأقل، أمضى كل سنوات شبابه في النقاش والصراع الميداني مع الأصولية الدينية في أوساط الحركة الطلابية والإتحاد الوطني لطلبة المغرب، وحين اختار الإستقالة من العمل الحزبي للتفرغ للإلتزام الصحفي، اختار الإشتغال في صحيفة تشكل امتدادا لخطه الفكري في اليسار الحداثي والنضال الطلابي.
ولأنهم منافقون، يرونك عميلا خائنا حين تنتقدهم، ورمزا وطنيا وديمقراطيا حين تدافع عنهم، أما أنت فلا ترى في نفسك غير أنك ديمقراطي المنشأ والمآل، وفي هذه المدرسة المسماة «الأحداث المغربية» تربيت على أخلاق الصحافة وقيمها، وفيها ترعى مشروعا وطنيا حداثيا ديمقراطيا وليس حسابات بنكية وعائدات البيع والشراء في المواقف والأصوات، ويوم تشعر أنها أضيق من روحك المتحررة ستجد أرض الله واسعة أمامك، أما الآن فمازالت ديمقراطية «الأحداث المغربية» بنفس سعة أرض الله الواسعة.
بقلم: يونس دافقير