بقلم الشيخ الصادق العثماني
كل أسبوع أو كل يوم، بل وكل دقيقة، يطلون علينا من شاشات الفضائيات، العابرة للقارات أو عبر الشبكة العنكبوتية من “فيسبوك” و”تويتر” و”واتساب” ومواقع إسلامية مختلفة سنية وشيعية… “دعاة” و”مشايخ” يتحدثون في أمور الدنيا والدين ويصدرون فتاوى يمينا ويسارا وفي كل شيء، حتى في العلوم الكونية الدقيقة، كالهندسة والطب والفلك والصيدلة وهم ليسوا من أهل الفتوى ولا من أهل الاختصاص في شيء..
فتاوى تخرج المسلمين إلى دائرة الإلحاد والضلال
والطامة الكبرى هي عندما أصبحت فتاوى هؤلاء تراق بها الدماء، وتقطع بها الرؤوس والأعناق، ويخرج بسببها مسلمون موحدون من دائرة الإسلام والإيمان، إلى دائرة الإلحاد والكفر والضلال! هنا المصيبة العظمى والفتنة الكبرى التي ستحرق الأخضر واليابس ويذهب ضحيتها الصالح والطالح، كما ستدمر البلاد والعباد ..
هذا هو حال الكثير من شيوخ ودعاة الفضائيات، حتى أصبحت الفتوى مرتعا مباحا لمن يحسن فنها ولمن لا يحسنه، ولمن هب ودب من المتفيقهين الجهلة، وكل حزب بما لديهم فرحون..
فهل تتحمل وسائل الإعلام وحدها مسئولية استضافة غير المتخصصين في البرامج الدينية والإفتاء على الهواء مباشرة؟ وهل نحن بحاجة إلى تشريعات ملزمة في قانون الإعلام تمنع استضافة غير المتخصصين؟ لأن من يتصدى للإفتاء ينبغي أن يكون عالما دارسا للغة العربية، ويعلم أصول الفقه ويحسن استنباط الأحكام، وأن يكون عالما بمقاصد الشريعة، وبالقواعد الفقهية العامة، وبالأمور التي تستجد على الساحة وتحتاج لتشغيل الفكر في بيان حكم الشرع فيها، ملما بعلوم العصر ومتابعا للقضايا الإسلامية المعاصرة ..
الحاجة إلى قوانين تجرم العنف والتكفير
ولهذا أرى شخصيا أن يتم عقد مؤتمر إسلامي دولي، يتم من خلاله مناقشة هذه الأمور كلها، وخاصة في قضية من القضايا التي تحث على العنف أو التكفير أو قتل المخالف، ومن ثم يتم إصدار توصيات وقوانين تجرم هذه الأفعال وعلى الخصوص فتاوى القتل والتكفير، وبهذا يمكن أن تكون هذه القوانين وسيلة من وسائل الردع للمتجرئين على الفتوى دون تأهيل علمي لها، وبالتركيز إعلاميا على أن اللجوء إلى جهات الفتوى الشرعية المعترف بها هو المؤدى إلى تحقيق مصلحة الفرد والجماعة والدولة، واللجوء لأشخاص لا يوثق بعلمهم، هذا يؤدى إلى خلخلة استقرار المجتمع؛ بل والإضرار بالأفراد فيه، كما أنه يؤثر تأثيرا سيئا على العلاقات السلمية بين أفراد المجتمع والأمن الجماعي، ناهيك عن زعزعة العلاقات الدبلوماسية التي تربط العالم الإسلامي بالدول والأمم والشعوب الأخرى..
فنحن كمهاجرين مسلمين في البلاد الغربية نشعر بخطورة هذا الوضع المتردي في الحقل الديني، وننادي ونلح بشدة وعلى من بيدهم الحل والعقد في العالم الإسلامي والعربي المسارعة إلى إغلاق هذا الباب؛ بغية إنقاذ ديننا من اللصوص الذين يحاولون العبث به وخطفه، وجعله دين إرهاب وقتل ودم؛ بحيث الفتاوى الدينية في عالمنا الإسلامي أصبحت تصدر إلى الجاليات المسلمة في الغرب كما تصدر الفواكه والطماطم؛ بل الطامة الكبرى هو أن هناك مواقع وبنوك للفتوى بمجرد الدخول إليها تجيبك عن كل شيء في الدين، من الصلاة والزكاة والحيض والنفاس والجهاد والوقاية من الجن والشيطان؛ حتى من أصيب بمرض العقم والطاعون و”السيدا” ستجد الشيخ الزنداني -بحمد الله- قد هيأ له فتوى ووصفة علاجية تشفيه من كل داء..
فتاوى منتهية الصلاحية تتربص بشباب المهجر
هل فهمنا لماذا شباب المسلمين الذين يقطنون في الدول الغربية اليوم يميلون كل الميل نحو التطرف والتشدد والإرهاب؟ لأنهم في الحقيقة يأخذون تعاليم دينهم خارج السياق، كما يأخذون بفتاوى مدة صلاحيتها منتهية، فأفسدت عقولهم، فضلوا وأضلوا شباب المهجر معهم، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا”.
والغريب في الأمر، حتى كلمة “تنويري”، للأسف، أصبحت عند شيوخ الدم والقتل كلمة مقلقة ومزعجة، ويتهم صاحبها بالكفر والضلال..! مع أن التنوير كما جاء في لسان العرب لابن منظور، هو وقتُ إسفار الصبح، يقال: “قد نوَّر الصبح تنويراً، والتنوير: الإنارة، والتنوير: الإسفار. ويقال: صلَّى الفجر في التنوير”. وفي المعجم الوسيط، استنار: أضاء، ويقال: استنار الشعبُ: صار واعياً مثقفاً، ونَوَّر اللهُ قلبَه: هداه إلى الحق والخير.. ويطلق اسم النور على الهداية كما في قوله تعالى “اللَّه وليّ الذين آمنوا يُخرجهم من الظلمات إلى النور”، “أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً”، أي هداية. “الله نور السمـوات والأرض”، أي هادي أهلها إلى طريق الحق وصراطه المستقيم..
فإذا كان النور يحمل هذه المعاني الإيجابية، لماذا الحرب عليه؟ مع أننا هذه الأيام في معاهدة سلام دائم مع القتل والجهل والظلام والتكفير، والله المستعان.