صباح بنداود
الحديث عن العلاقة بين السياسي والإعلامي يضعنا أمام مزيج غريب من الصراع والتعاون بينهما؛ فهي عنصر محرك وفاعل في العملية السياسية برمتها، وأصبحت ضرورة إستراتيجية لقياس درجة الممارسة الديمقراطية وانصهارها في المجتمع.
في هذا الإطار سنتحدث عن ثلاثة مستويات من التعامل: الفاعل السياسي يستمد مشروعيته عن طريق صناديق الاقتراع، ثم الفاعل الإعلامي ودوره كوسيط أساسي في العملية السياسية وتأثيره الفعلي في المجتمع بفضل المنابر الإعلامية التي يضعها رهن إشارة السياسي، وفق قوانين وتشريعات مضبوطة، والمستوى الثالث هو المتلقي؛ وهو عنصر الحسم في العلاقة ككل.
في البدء كان لزاما على كل سلطة سياسية أن تحصل على مشروعيتها عن طريق الانتخابات، وهي مشروعية تطلبت تضحيات كثيرة ووقتا طويلا لتحقيقها، لكن ما يحدث اليوم من تحولات في العلاقة بين ممثلي الشعب وجماهير الناخبين كان سببها الرئيسي هو تسرب وسائل الإعلام إلى هاته العلاقة، بفضل التطور التكنولوجي المتسارع، دون نسيان حمولتها الفكرية واختلاف المرجعيات الآتية منها.
لقد وصلنا إلى مرحلة أن المشروعية في السلطة السياسية تتقاسمها الآن الانتخابات ووسائل الإعلام؛ فرجال السياسة ملزمون باللجوء إلى وسائل الإعلام من أجل طرح مشاريعهم السياسية والاجتماعية ودعمهم في فترة الانتخابات أو تلميع صورتهم.. في ظل هذه الوضعية نحن أمام تعددية في الرأي تعكسها وسائل الإعلام عبر ما يصطلح عليه
بالتسويق السياسي، ونجاحه مرتبط بوجود شرط أساسي؛ وهو الانفتاح السياسي الدائم والمتطور، وليس المرحلي، والإيمان بتناوب حقيقي قائم على انتخابات نزيهة وشفافة مع ما يقابلها من حرية الرأي والتعبير.
إن الوصول إلى مراكز التسيير والقرار أصبح يمر عبر الخيط الرفيع الذي يربط بين السلطة السياسية ووسائل الاتصال، والذي يعمل على تـأطير هاته العلاقة هو ما يصطلح عليه اليوم بالاتصال السياسي، الذي يرى أصحاب الاختصاص في الميدان أن له علاقة بالإشهار التجاري، فهما يجتمعان في خاصية واحدة، وهي أن الإشهار في مفهومه لا يقوم على شراء المنتوج ولكن يتجاوزه بتطمين المشتري بإعطائه أدلة تمكنه من إثبات حسن اختياره لهذا المنتوج، والاتصال السياسي لا ينتهي بانتهاء العملية الانتخابية؛ لأن المنتحب ملزم بأن يطمئن جماعة منتخبيه بأنهم كانوا على حق عندما منحوه أصواتهم.
ويشمل الاتصال السياسي كل التقنيات التي يلجأ إليها المرشح من أجل تمرير خطابه وأفكاره إلى الناخبين عن طريق الوسائل التي توفرها له خلية الاعلام التي ترافقه وتشرف على حملته الانتخابية.
نتفق جميعا أن المغرب عاش خلال 50 سنة من الاستقلال على إيقاع سياسي متسارع، جمع بين التعددية الحزبية التي أقرها أول دستور للبلاد، وكانت سابقة في محيطه الإقليمي، وبين حالة الاستثناء التي عاشها وكانت خاتمتها الدخول في مسلسل الوحدة الترابية باسترجاع الأقاليم الجنوبية وضرورة حصول الإجماع الوطني حولها من مختلف التيارات السياسية؛ ثم بداية المسلسل الديمقراطي الذي لازلنا نعيش فصوله إلى اليوم.
ارتباطا بالمعطيات السابقة، فرغم الحركية التي عاشها المغرب لم تكن هناك علاقة صريحة بين السياسي والإعلامي، وهذا الغياب مرده إلى عدة أسباب، نجملها في ما يلي: الوضعية السياسية للمغرب بعد الاستقلال لم تكن تسمح بهذه العلاقة؛ نظرا لحالة الصراع السياسي التي عاش على إيقاعها المغرب طيلة ثلاثة عقود، إذ لم يتم عكس التعددية الحزبية عبر وسائل الإعلام الا في لحظات عابرة جدا..
التأخر الكبير لانتشار وسائل الإعلام المكتوبة بسبب ارتفاع نسبة الأمية ومحدودية انتشار وسائل الإعلام المسموعة والمرئية في تلك الفترة.. وحالة الرقابة التي كانت مفروضة على الإعلام المكتوب وتبعية الإعلام السمعي البصري للدولة؛ ثم تأخر الأحزاب في الإحساس بأهمية ودور الإعلام بسبب انشغالها بصراعاتها الداخلية أو مع الدولة؛ ما ضيع عليها وقتا ثمينا لاستيعاب مدى أهمية وضرورة وجود هذه العلاقة بالنسبة للطرفين.
إذا كانت الخلفية السياسية التي أصبحت تطبع المشهد السياسي المغربي تعتمد وتشدد على التعددية السياسية الحقيقية وعلى مشاركة فعالة للمجتمع المدني وعلى اهتمام أوسع بمجال الحريات العامة، فإن الخلفية الإعلامية رافقها انفجار إعلامي كبير، لم يكن أحد يتوقعه، طبعه تعدد قنوات الاتصال والتطور التكنولوجي، وكان من نتائجه تعدد مصادر الخبر.
ماهي الأسئلة التي يمكن أن نطرحها بخصوص التجربة المغربية في مجال العلاقة بين السياسي والإعلامي؟: هل نحن نعيش بداية لتفعيل السياسة والإعلام؟ فالرهان الديمقراطي كاختيار يفرض وجود علاقة واضحة، بمعنى هل نجح سياسيونا في استغلال ظرفية تحرير القطاع السمعي البصري التي يعيش الإعلام المغربي تراكم تجربتها اليوم؟ بما يعني أن المغرب عليه أن يلج عهدا يطبعه نضج سياسي عند كل الأطراف، يؤطره الحوار المفتوح بين الفاعلين السياسيين ويكسبه الإعلام الانتشار والمشروعية والمصداقية.. لذا فالواجهتان: السياسية كسلطة قائمة ذات نفود تؤطرها المؤسسات الدستورية والسياسية، والواجهة الإعلامية كـ"سلطة" غير منتخبة ولكن تتوفر على نفوذ وقوة مرتبطة بانتشارها الجماهيري، من المنطقي أن يسيرا في خط متواز ولا يجب أن يأخذ ذلك بمبدأ التواطؤ بين الطرفين؛ لأن حدوث ذلك معناه المساس بمصداقية الخطاب السياسي واستقلالية وسائل الإعلام.
في التجارب السياسية التي عاشها المغرب، رغم حدة الانتقاد والطعن في نتائجها، فإنها تظل المقياس الوحيد لتحليل هاته العلاقة.. لقد أبانت هذه التجارب عن محدودية تأهيل وتأطير من كلفوا بشرح الخطاب السياسي للأحزاب السياسية خلال الحملات الانتخابية؛ لأن الرهان الديمقراطي عندنا يرتبط بهذه الفترات.. ومن يطرحون اليوم إشكالية العزوف عن المشاركة السياسية للمواطن لا يجب أن يهملوا أن من أسبابها الرئيسية كذلك هو الظهور غير المقنع لهاته العينة التي يتم اختيارها؛ لأن من متطلبات المتحدث أن يكون ذكيا في اختيار الكلمات والمفردات التي يطلقها، والموضوع الذي ينوي التحدث حوله، مع أسلوب جيد في الإقناع، وأن يعرف كيف يخرج نفسه من أي ورطة يتوقع حدوثها، وأن يتجنب التشنج عند طرح موضوع ذي حساسية خاصة، بل عليه أن يسعى إلى خلق الحدث. ومهمة المستشارين في مجال التواصل السياسي أن يكونوا على دراية بنقاط القوة والضعف عند الفاعل السياسي، وأن يتوفروا على شبكة علاقات قوية.. وهي معطيات يستغلها الإعلامي لتأكيد قوته ومنهيته وجدارته في تناول مواضيع من هذا الحجم، تكون مثار اهتمام الجميع وتظل تداعياتها قائمة لفترة معينة، ليسجل نقاط الفوز على السياسي، مادام أن الأمر يتعلق بمباراة يحدد الفائز فيها من طرف الجمهور.
علاقة السياسي والإعلامي اليوم، وما تعرفه من تطور سريع، هي تثمين وتتويج لحالة الانفتاح السياسي التي دشنها المغرب مع بداية التسعينيات، وتتأكد اليوم بدستور 2011، وما تعيشه اليوم من حضور قوي هو بفضل دخول التكنولوجيا دائرة توطيد وكذلك تأجيج العلاقة بينهما.
وخارج إطار القوانين والتشريعات التي تؤطر هاته العلاقة عبر وسائل الإعلام التقليدية، إي الإذاعة والتلفزيون، التي يظل امتدادها الجماهيري قائما ..أصبح السياسي يحاول تقزيم دور الإعلامي، أي دون حاجته إلى وسيط، وأضحى هذا الدور تقوم به جهة أخرى تتوفر على وسائل أخرى تجعل تحركات السياسي تصل إلى جماهير أوسع، وهذا ظهر جليا من خلال البث المباشر لتقديم البرامج الانتخابية لتشريعيات 7 أكتوبر2016، إذ أصبحت المادة السياسية ومضمونها تصل في حينها إلى جمهور الناخبين والمهتمين، بل ذهبت أحزاب لإلى إنشاء إذاعات وتلفزات عبر الإنترنت، وإنشاء مواقع إلكترونية وشراء أخرى جاهزة، ووضع اليد على البعض منها لتسريع وتيرة وصول خطابها السياسي وموقفها من عدد من القضايا ..خصوصا أنه مع تواتر الأحداث وسرعتها أصبح لزاما على السياسي إيجاد وسيط دائم يلجا إليه متى كانت الحاجة إلى ذلك..لكن هذا لا يعني نهاية دور الإذاعة والتلفزيون؛ بل يقوي مكانتهما، مع ضرورة خلق إستراتيجية جديدة وفاعلة يؤطرها توفرهما على عنصرين أساسيين، هما العنصر البشري المتخصص والعنصر التقني المتمرس، وهنا يظل وضع تصورات ومضامين جديدة قادرة بالدفع إلى استمرارية دورهما في الحياة العامة والسياسية خصوصا مطلبا ملحا وضروريا.
سيظل السياسي في حاجة إلى وساطة الإعلامي، ولن ينتقل الأخير إلى العب دور المتلقي، لأن المسالة لن تكون في صالح العملية السياسية، رغم وجود اتجاه يسعى إلى خلط الأوراق وإزاحة دور الإعلامي الحقيقي، لما يشكل حضوره من إعطاء مصداقية للخطاب السياسي ومشاكسة حقيقية لمضامينه.. فلا عجب إذا لمسنا وجود إعلاميين يقومون بدور وضع إمكانياتهم رهن إشارة السياسيين، ما يجعل مسألة المصداقية محط تساؤل كبير.
إن وضع مسافة واضحة في علاقة السياسي والإعلامي مطلب ضروري، لأن لها تأثيرا مباشرا على المتلقي، فهي تسهل درجة استيعابه للخطاب السياسي بفضل دور الإعلامي في تفكيك وتحليل هذا الخطاب، بعيدا عن أي تأثير مباشر أو غير متوقع.. وأي هشاشة تصيب المشهد السياسي بسبب ضعف الأحزاب في إنتاج أفكار جديدة فهي تلزم الإعلامي بالقيام بجهد مضاعف لإيجاد نخبة سياسية قادرة على إعطاء نفس جديد، ما يسهل مأموريته أمام جمهور المتلقين.
تجاوزت اليوم العلاقة بين السياسي والإعلامي مرحلتها الجنينية، التي أطرتها ظروف سياسية معينة؛ فإذا كان عبد الرحيم بوعبيد انتظر عشرين عاما ليظهر على شاشة التلفزة ليتحدث عن برنامج حزبه الانتخابي، فان القادة السياسيين اليوم يعيشون في جنة تواصلية تحتم عليهم خلق نخب جديدة قادرة على فهم ما يجري، وإنتاج أفكار والمساهمة في توعية المجتمع ..فكل ما هو سياسي قابل أن يصبح مادة إعلامية، والأكيد أن يوم 7 أكتوبر سيدخل هذه العلاقة مسارا جديدا، مبنيا على التفاعل وليس الانفعال كما يحدث الآن.
*صحافية في الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة