حين يتدفق التيه السياسي. لا يجب أن ننساق وراء تفاصيل الرداءة، فكلما توغلنا في ذلك بدافع من الحماسة أو ردود الفعل الوجدانية، نزيد من رفع حجم الخسارات، وتكون الكلفة السياسية مفتوحة على احتمالات أن تكون فاتورتها دسمة.
إنه ما يحدث بالضبط على بعد أيام من الحملة الإنتخابية وحتى قبل ذلك بكثير، بدأنا نعطي الانطباع أن ما نسير إليه في سابع أكتوبر ليس مجرد انتخابات عادية في مسار ديمقراطي طبيعي، و«كأنها القيامة» مثلا، أو الحرب بكل حمولاتها الرمزية حيث العتاد والقصف والقتلى والجرحى، لم نعد نسمع غير الدمدمة وهي في المعجم العربي صوت الطبول والحرب، ونكاد لا نعثر على أي نقاش حول حصيلة الالتزامات ورؤى المستقبل.
وها نحن نحصد أولى الخسائر، مسيرة كاريكاتيرية في شوارع البيضاء تضع حياد السلطات موضع شك، وانفجار سياسي بين وزارتين وازنتين تشكلان اللجنة الحكومية لتتبع الانتخابات، فتاوى تكفر من لن يصوت لصالح مرشحين يعدونهم بالجنة، واجتهادات إدارية في قياس منسوب الديمقراطية خارج أحكام القانون وضمانات القضاء…
ويمكن لمن يريد تسويد الصورة وجعلها أكثر قتامة أن يسرد العشرات من الوقائع التي عشناها في الأسابيع القليلة الماضية، وقد حاولنا غير ما مرة التقليل من هول ما يجري، تارة بالقول إنها أجواء انتخابية تنافسية شرسة عادية، وتارة بالتأكيد أن سوق السياسة تعيش رواجا غير مسبوق … لكن يبدو أن الوقائع تسير نحو أن تصبح أعقد من مسوغاتنا ومساعينا نحو الطمأنة وعدم التهويل.
ونحتاج لأن نعود إلى الأصل ونقطة البداية، حتى نضبط البوصلة ولا نتيه عن الاتجاه الذي رسمناه حين كنا بصدد إبرام تعاقدات جديدة ذات لحظات عسيرة من سنة 2011.
اليوم هناك من يريد إسقاط الإسلاميين من عرش الحكومة والبرلمان، وهناك من يريد حل حزب الأصالة والمعاصرة وطرده من المشهد السياسي الوطني. وبين الحزبين يصطف الآخرون في هذا المعسكر أو ذاك أو خارجهما معا، منهم من يحاول أن يتميز بهويته وألا يرى غير مصلحته، ومنهم من يريد أن يكون بديلا … وكل ذلك ملح السياسة وخميرة ديناميتها التي تكسر الرتابة.
لكن الإفراط في السياسة يقتل الديمقراطية، ويهدد مسار بناء الديمقراطية.
في 2011 كنا تجربة متميزة في محيطنا الإقليمي، وكانت وصفتنا السحرية بسيطة لكنها معقدة أيضا، دستور يفصل بين السلطات ويعلي من قيمة المؤسسات المنتخبة، انتخابات حرة وتنافسية، وتحرير للعبة السياسية القائمة على «قداسة» الخيار الديمقراطي.
وحتى حين اعتقد البعض أن ما أنجزناه مجرد قوس يجب أن يغلق بعد المعادلات السياسية الجديدة التي أعقبت انهيارات «الربيع العربي» في 2013، انتصر فينا صوت العقل والحكمة، وقلنا إن ما بني بالديمقراطية لا يمكن أن يراجع إلا بالديمقراطية ومن داخلها وليس من خارج قيمها وآلياتها وأخلاقها.
لكن يبدو أن هناك من نسي هذه التعاقدات في أجواء الانتخابات، إنها القانون الذي يرتفع فوق الأزمنة والحسابات والظرفيات، وهي الرأسمال الذي إن أضعناه أو استنزفنا قواه، نعود بأنفسنا إلي ما قبل 2011 ونضع مستقبلنا فريسة سهلة بين مخالب من يتربص بديمقراطيتنا ليبني على أنقاضها دولة الخلافة والسلف الصالح.
وحتى فيما نقبل عليه من رهانات دولية ونرسمه من تحديات كبرى، لم نعرض على العالم شيئا آخر غير رأسمالنا الديمقراطي وتفردنا السياسي الذي منه يأتي استقرارنا في محيط إقليمي مضطرب، ولما نريد أن نواجه خصومنا في الجوار وعواصم التجزئة والتقسيم، ليس لدينا غير جبهتنا الداخلية التي لن تتقوى إلا بالديمقراطية وليس بعداوات السياسة.
فحين نتيه في الحسابات العابرة يجب أن نعود إلى هذه البدايات، فالانتخابات ستمر، والبرلمان سينتخب وتتشكل الحكومة، وحتى إن لم يتحقق ذلك في آجاله يكون بالإمكان تداركه، غير أن ما لا يقبل التدارك أو التصحيح هو زرع العداوات وفقدان الثقة والطعنات الغادرة التي تصوب من هنا وهناك لالتزاماتنا وتعاقداتنا الديمقراطية.
فقليلا من التعقل والتبصر رجاء، فمستقبل الوطن لا يحتمل كل هذه النزلاقات، وما رسمناه من طموحات وطنية أكبر بكثير من طموحات أشخاص أو أحزاب.