"إن تقدم شعب من الشعوب يمكن أن يقاس بمدى تفهمه للتطور"
ناعوم تشومسكي
لا شك أن الآيات الإعجازية في القرآن، المتحدثة عن مختلف المكتشفات العلمية حتى قبل التوصل إليها، قد ردمت الهوة الموجودة في استيعاب عقول الناس لأسرار الكون والوجود، وعليه، فقد وجدت لنفسها موطأ قدم في عقل المسلم الذي تقبلها قبولا حسنا.
لكن النظريات العلمية المرتبطة بأصل الإنسان وخلقه، خصوصا تلك الموضوعة من قبل العالم الإنجليزي الكبير تشارلز داروين، التي أحدثت ضجة وأسالت الكثير من المداد إبان ظهورها لأول مرة في كتابه "نشأة الإنسان" سنة 1871، رُفضت رفضا شديدا من قبل عامة الناس وعلماء الأديان السماوية، لا لشيء إلا لأنها تزحزح ركائز نظرية الخلق المذكورة في التوراة والإنجيل التي يؤمن بها علماء الإسلام هم الآخرون بشكل حاسم ودون تدبر في القرآن العميق الذي، ما إن نقدح زناد فكرنا لاستيعابه، نتوصل إلى أن التفاسير المستنبطة منه بخصوص أصول البشر تتسم بالسذاجة، وأن مثيل هذه التأويلات السطحية التي اكتفت بما جاء في الإسرائيليات لا تليق به وأن الله لم يتحدث في كتابه عن "حواء" كما لم تذكر البتة في السنة النبوية، ثم إن هذه الأخيرة ضعيفة في ما يتعلق بإدراج حيثيات خلق الكون مقارنة مع القرآن الكريم.
ويضاف إلى ما ذكر، عدم قدرة العلماء المفسرين عن إبداء رأيهم في القضايا الإعجازية التي لم يعاصروها.
ولقد ظلت، إذن، قضية خلق الكون والبشر موضوع تأمل من قبل الإنسان، وهذا ما أثبتته جميع الأبحاث الأثرية والفلسفية والفيزيائية الحديثة. هذه الأخيرة أزالت الغبار عن علاقة الإنسان بالفلك وبالذات الإنسانية وتنقيره المستمر لفهم حقيقة وجوده على كوكب الأرض.
ولقد أشارة الديانات السماوية بدورها إلى قصة الخلق بدون تفصيل، لكن ذلك لم يمنع الإنسان من التنقيب والتنقير عن أصل البشر.
ويقول القرآن بهذا الصدد: "أَوَ لَمْ ير الذين كفروا أنَّ السماواتِ والأرضَ كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا تومنون" المؤمنون، 30 الأنبياء
يقول الدكتور محمد بابكر حسن إن هذه الآية تتحدث عما مفاده أن الله تعالى لم يوضح بشكل مفصل طريقة بداية الكون "الانفجار العظيم"، بل المرحلة النهائية التي كانت عليها الأرض قبل تفتقها عن السماء لتنتشر الكواكب والنجوم في الفضاء. لكن الله أخبرنا ببعض أسرار الكون مشيرا إلى الفترات التي تقسمت عليها مراحل خلق هذا الأخير، بيد أنه ترك للإنسان باب البحث والدراسة والتفكر حين قال: "ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب" سورة قاف، 38.
وما قام به بنو إسرائيل هو تعاملهم بمنطق البشر مع قدرة الله وجبروته، فقاموا بإعطاء تفسيرات ساذجة بسيطة للتوراة تتماشى مع قدرتهم العقلية الإنسانية. وهذا ما نسبه اليهود إلى الله في الوراة:
"و بيني وبين إسرائيل علامة عهد إلى الأبد، لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض، وفي اليوم السابع فرغ من العمل واستراح" سفر الخروج 18:31.
إذا فكرنا في الأمر مليا، آخذين بعين الاعتبار قوة الله وقدرته التي لا يمكن لعقل بشر تخيلها، نجد أن هذه المراحل أو الأيام الستة ربما تقدر بملايين السنين. لكن بما أن اليهود بسطوا قدرة الله فقد توصلوا إلى استنتاج لا زهر له ولا تمر وهو محدودية القدرة الإلهية وأن الله تعالى في حاجة لاستراحة وسبحان الله وتعالى عما يصفون.
بالنمط ذاته تعامل اليهود مع قصة خلق الإنسان، فأولوها تأويلا سطحيا لا يمت للقرآن بصلة تذكر، فكل عقل متدبر لابد أن تتضح له بساطة التفسيرات، بحيث تتوافق مع مخيال الإنسان أكثر مما تتماشى مع قدرة الخالق وسنته في الكون والخلق.
وحتى لا ندخل في تفاصيل لا يسعنا لا المقام ولا المقال لذكرها، سنتجه مباشرة وبعد هذا التمهيد السلس إلى الحديث عن الخلق في القرآن الكريم. وهذه المعلومات لن تغنينا عن قراءة الكتاب الذي اعتمدنا عليه لكتابة هذه الأسطر بغية اقتسام المعلومات مع القارئ الفاضل.
الخلق في القرآن الكريم
إن وجود الله والملائكة والجن وإبليس، كما هو معلوم، سابق لوجود الكائنات الأخرى، وقد أوجد الله جميع الظروف المناسبة لتدب الحياة في الأرض ووزعت جميع القوانين التي تنظم سير الكون، والله أخبر الملائكة بوجودهم السابق لوجود الإنسان، وعليه فهم عارفون لما يحصل في الأرض قبل خلق آدم.
ثنائية الخطاب الموجه للملائكة:
يقول تعالى: "إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" 71ـ72 ص.
ويقول سبحانه: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة... قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك..." 31 البقرة.
في الآية الأولى وجه الله الخطاب للملائكة بخصوص خلق البشر، والملائكة لم تظهر اعتراضا على مشيئة الله سبحانه، إذ هو الخلاق وليس للملائكة إلا السمع والطاعة.
وفي الآية الثانية، نجد الله مخاطبا للملائكة، غير أن هذه الأخيرة قامت بطرح السؤال، وهنا يبرز الله تعالى أن السؤال المنطقي الموضوعي يمكن أن يطرح ولا ذنب في ذلك، ما دمنا لا نبتغي من السؤال سوى الحقيقة.
ويقول الدكتور محمد بابكر أن من حق البشر أن يتساءل حول الخلق والكون بغية الوصول إلى الحقيقة، ما دام أن الله سيجيبنا كما أجاب الملائكة. ومن هنا يقول أن من حقنا أن نتفكر لنميز بين فعل خلق وجعل في الآيتين، حتى نفهم لماذا استغربت الملائكة حينما تعلق الأمر بتنصيب البشر خليفة في الأرض ولم تقم بالشيء ذاته حين حدثها الله عن خلق البشر.
يخبرنا الدكتور محمد بابكر أن الملائكة ما كانوا يعرفون ما هو البشر ولذلك استعمل الله الفظ في صيغة المفرد، ثم أنهم يخضعون لأمر الله وهو يخلق ما يشاء، لكن حينما تكلم جل وعلا عن تنصيب ذلك البشر أدرك الملائكة أن الله يتحدث عن ذلك المخلوق الفاسد الموجود في الأرض بحيث علمو ببطشه وفساده.
بيد أن الله تعالى حين أراد جعل البشر خليفة، كان أخضعه لقانون تطور معين مضبوط لا عوج فيه ويشير الدكتور عينه أنها موضوعة من قبل الله في ما يسمى "نطفة امشاج" التي تفهم في عصرنا على أنها الحمض النووي المسؤول عن الطفرات الجينية.
وبخلاف علماء الطبيعة الذين يقرون أن القرد أصل الإنسان، يخبرنا القرآن أنه كان "بشرا" بدأ مع الإنسان البدائي الذي ربما كان في سلوكه غير مختلف عن الحيوانات الأخرى، وقد يكون شبيها في هيئته بالقردة ما جعل العلماء يذهبون لتبني ذلك الطرح رغم أن داروين لم يقل به، حسب الدارسين الموضوعيين لكتبه.
1.الإنسان العاقل
قبل أن يتطور البشر إلى ذلك الإنسان العاقل، يقول الدكتور محمد بابكر، إنه لم يكن مختلفا عن الحيوانات الأخرى التي تدب فوق الأرض منذ ملايين السنين، فكان محكوما بغريزة البقاء شانه في ذلك شان جميع الكائنات غير العاقلة. لكن الله تعالى تدخل مباشرة فمنحه العقل ليستطيع التكيف مع محيطه وتسخير الطبيعة لمصلحته.
هذا التدخل كان هو الحلقة المفقودة في نظرية شارلز داروين، وقد ذهب مجموعة من العلماء لتفسيره مقدمين تأويلات مختلفة، فمنهم من قال أن المخلوقات الفضائية هي المتسببة في تلك النقلة العجيبة ومنهم آخرون أوعزوها إلى التغير الجدري الواقع في الجينات، إلخ. هذه النظريات جاءت إثر المدة القصيرة التي ظهر فيها ذلك التغير العجيب والطفرة المفاجئة وهي العقل، بالمقارنة مع المدة التي استلزمتها مشيته لتعتدل ويستطيع اكتساب مهارات خاصة. والسبب وراء سؤال الملائكة هو جهلهم كيف سيكون التغيير الذي سيوقعه الله على هذا البشر.
ويشير الدكتور بابكرإلى وجود علاقة وطيدة بين البشر الذي خلقه الله قبل آدم والطين، إذ وجد العديد من الآيات التي تتحدث عن وجود رابط وطيد بينها، فتبدى له بجلاء أن الله تعالى يدعونا لتأمل كتابه مستعملا أسلوب التكرار.
ويقول مؤلف الكتاب إنه لم تذكر في القرآن أية إشارة على خلق الله لآدم على هيئة تمثال، بل ذلك ليس إلا انطباعا تكون عند الناس بتأثير من الإسرائيليات.
2.أطوار الخلق
الطور الأول:
يقول سبحانه: "وبدأ خلق الإنسان من طين"
في هذه الآية وصف الله المرحلة الأولى من الخلق مبينا أن أصل البشر من طين، وهذا يوحي حسب الدكتور محمد بابكر إلى وجود مراحل أخرى وعناصر ستدخل في تركيب الإنسان غير الطين.
يطرح المؤلف بهذا الصدد ثلاثة أسئلة جوهرية نذكرها كما جاءت في الكتاب:
ـ هل كان هذا الإنسان المقصود ذكرا أم أنثى أم كليهما؟
ـ هل كان الإنسان في هذا الطور كائنا حيا أم كتلة من الطين لا حياة فيها؟
ـ هل كان الإنسان يتناسل بأي شكل من الأشكال في هذا الطور؟
يجيب الكاتب على هذه الأسئلة في الطور الثاني قائلا.
الطور الثاني:
"ثم نجعل نسله من سلالة من ماء مهين":
يقول الدكتور إن هذه المرحلة، أحالنا بواسطتها الله على حقيقة علمية مهمة جدا، وهي انتقال الإنسان إلى مرحلة التوالد الجنسي موضحا أن جملة "من ماء مهين" خير دليل على ذلك، مشيرا إذن إلى وجود الذكر والأنثى اللذان تستوجبهما كل علاقة جنسية (ليس المقصود بالذكر والأنثى آدم وحواء)
الطور الثالث:
"ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون"
في هذه الآية، يقول الدكتور محمد بابكر، إنه يوجد الطور الحاسم الذي أوجد الإنسان، كما قًدمت لنا معلومات إضافية وتفصيلات تطورية تشريحية نفهمها في عصرنا الحديث يخبرنا تعالى من خلالها أن عملية التطوير لابد لها أن تشتمل على تغيرات في الأعضاء ووظائفها.
نلاحظ إذن أن الله تحدث في أول الآية على النفخ، إشارة إلى التغير الشتريحي، وأتبعه الله تعالى بتغير وظيفي في الوقت نفسه ويدل على ذلك فعل "جعل"، ما نتج عنه ظهور الحواس من سمع وبصر، ما يدل على وجود تلك الأعضاء سابقا لكن دون وظائفها. وهذا النفخ والتعديل مر عبر المخ الذي يعتبر المتحكم في جميع وظائف الجسم والله أعلم.
ثم إن نفخ الروح في هذه الآية، حسب المؤلف، لم يقصد بها روح الحياة بل العقل والبصيرة، واستدل على ذلك في مثل خلق عيسى حينما نفخ الله في مريم من روحه وهي حية ترزق.
وفي الآيات التي ذكر فيها النفخ، وفق إفادة المؤلف، لم يتحدث الإنسان عن "آدم" بعد بل عن المجموعة البشرية التي وجدت قبله، بحيث ذكر اسم "آدم" لتوصيف الإنسان العاقل الذي خضع لعملية التطوير بالنفخ.
والآية المذكورة أسفله يوضح بها الكاتب طرحه:
يقول تعالى: ""ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين" سورة الأعراف 11
التصوير لغة يعني تحديد هيئة المخلوق وشكله، وكما نلاحظ، استعمل القرآن حرف العطف "ثم" ما يدل على وجود فارق زمني نسبي بين طور الخلق وطور التصوير، والمقصود هو أن البشر كان مخلوقا موجودا في الأرض وظل في هيئة معينة حتى وصلت مرحلة من التطور فمنحه الله الهيئة التي تعرفها الآن، وبعد فارق زمني طويل نسبيا لا يعلمه إلا الله جاءت اللحظة التي أمر فيها الله الملائكة بالسجود وهي المرحلة التي تمخض عنها الإنسان العاقل.
يستنتج إذن مما سبق أن الله بدا خلق الإنسان من تراب كمخلوق نبت من تراب، وعبر العصور تطور هذا البشر إلى أن أصبح مستعدا للخضوع للتغير الجدري الذي سيحوله إلى إنسان وهو جنس آدم، ثم تحول هذا الإنسان بإرادة من الله إلى كائن ذو عقل وحواس، ليستطيع حمل الرسالة السماوية ويستخلفه الله في الأرض.
هذا الخليفة الجديد علمه الله كل ما سيحتاجه للتحكم في الطبيعة وتسخيرها لنفسه، كما أعطاه الآليات الضرورية لممارسة ما يعرف الآن بالفلسفة الجدلية والبحث العلمي، وهذا ما أتبته الله تعالى في كتابه العزيز: "قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم قال ألم أقل لكم أني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمونّ".
وجاءت بعد ذلك مرحلة تنصيب الإنسان خليفة وتكريمه أمام كل المخلوقات " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوأ..." البقرة.
الكاتب: محمد أرسلان
المراجع المعتمدة:
محمد بابكر حسن، آذان الانعام، الطبعة 1، دار النشر عزة، 2007
تشارلز داروين، المترجم مجدي محمود المليجي، المجلس الأعلى للثقافة، 2004