السيد محي الدين عميمور شخصية جزائرية استثنائية. رجل دولة تقلّب في دواليبها، وسلك سراديبها وسبر أغوارها، وهو رجل ثقافة، واسع المعرفة، دائب الاطلاع، أحد حماة اللغة العربية، وأحد سدنة المعبد، وحُماة الميراث البومديني. هو من طينة لن تتكرر.
اكتشفته أول ما اكتشفته من خلال مقالات كان ينشرها في جريدة الشرق الأوسط في منتصف التسعينات عن الجزائر والوضع الذي كانت تعيشه آنذاك. امتازت تحليلاته بالعمق والجرأة.. ولم يكن ذلك بالأمر الهيّن حينها.
ثم أخذتُ بعدها أقتفي أثَره وأتتبع خطاه، فيما يُرضي وما يغضب. هو ممن يُحسَبون من الصقور، ولكنه رجل صادق، وفي الصدق، مهما اختلفت الرؤى مجال للالتقاء. والتقينا في حفل على هامش لقاء لوزراء الإعلام (المغاربيين أو العرب، لا أذكر) لعله سنة 2000 أو 2001، انعقد بالرباط، في رحاب مجلس النواب، وكان وزيرَ الإعلام المغربي، يومها المرحومُ العربي المساري، وأنا إذاك ناطق رسمي باسم القصر الملكي. واجهني السي عميمور بدعابة، وقد سألته أيقيم بهلتون، فأجاب بهلتين، وشفع أنْ سبقها حرف جر. لعله لا يذكر ذلك، و أُسرُّ له أني كنت متحفظا في الحديث إليه، لأني كنت أراه من الصقور. من صقور جبهة التحرير، وممن يمتزج ذلك عندهم بعمق قومي عربي، ولم تكن خلفيتي الأمازيغية ولا ارتباطاتي المخزنية آنذاك، تتيح لي أن أتبسط في الحوار يومها.
اليومَ أفعل بعد الحوار الذي قدّمه لأسبوعية "الأيام" المغربية. أفعل لأن الرجل ليس ممن يُلقون القول على عواهنه. أفعل لأن الرجل، وهو ابن جبهة التحرير الوطنية، لم ينس الأهم من صوت الأحرار يصدح من الجبال الشماء في الأوراس وجردجرة، صوت يتردد صداه معبرا عن الوحدة، وحدتنا المغربية أو المغاربية.
أريد أن أطمئنه أن خلفيتي الأمازيغية، تسمح لي من أن آخذ أكثر من سنتمرات من أي صرح، فلست صدى لبنيان أو همسة اختبار لمؤسسة.. أصدر من شيء، هو إيماني بالوحدة المغربية أو المغاربية، وهو الأمر الذي تردد في حديثه، يعبر عنه بتعبير المغرب العربي، أختلف معه في التعبير، ولا أختلف عن الغاية وهو الأساس. تراث يوغرثن والأمير عبد القادر ولالا فاظمة نْ سور، وثورة فاتح نونبر، ليس كل ذلك غريبا عني، بل هو جزء مني، أفخر بها وأتباهى، و أصدّقه حين يُعبر عن الاعتزاز لمظاهر العراقة في المغرب. لا يخامرني أدنى شك في ذلك لأنه من جيل آمن بالوحدة... وأعرف ما يمثله الأمير عبد الكريم الخطابي والملك محمد الخامس في وجدان إخواننا في الجزائر، وقد أشار لذلك.
يطرح لقضية العلاقات المغربية الجزائرية، ويُقدّم تشخيصا أراه فيه صائبا، انعدام الثقة، وتدخل أطراف خارجية. يُنحي باللائمة على خطابات مغربية، مصيب في جوانب منها، ولكن الموضوعية تقتضي كذلك النظرة الشمولية، إذ مثلما يقول المثل المغربي، ولعله شبيه لما يقال في الجزائر، "شوية من الحنة، وشوية من ترطاب اليدين". المسؤولية مشتركة.. والتمييز ليس السمة الغالبة عند الغالبية من الناس.. وليس لنا أن نتوسع في ذلك هنا، وفي هذا الحيّز.
يعرض لقضية الصحراء، وأعرفه عارفا بها، بملابساتها، وتبعاتها وأبعادها وخباياها وظاهرها وبواطنها وعللها .. أعرف ذلك منه، ولذلك أقدر جرأته في القول إن الحكم الذاتي مخرج لحل مشكل معقد تتأذى منها العلاقات المغربية الجزائرية، ويرهن المصير المشترك، ويؤدي ثمنه إخوتنا من البوليساريو، الذين هم أبناؤنا وإخوتنا، مهما اختلفنا سياسيا. لا يمكن أن ننسى أن عقد ميلاد الجبهة كان التحريرَ من الاستعمار والوحدة. ينبغي أن نُذكّر بذلك. نذكّر أنفسنا، ونذكرهم به، ف "الذكرى تنفع المؤمنين"، المؤمنين بالقيم المُثلى.
يحيل السيد عميمور إلى سابقة ألمانيا وفرنسا، ولو أن المقارنة لا تصح، لأن لا شيء يميز الشعب المغربي عن الشعب الجزائري، سوى أنهما يعيشان في بلدين ونظامين مختلفين.. فما يجمع واحدا من وجدة، بشخص من ندرومة، أعمق مما قد يجمعه مع شخص من دكالة المغربية، وما يجمع شخصا من فاس بشخص من تلمسان أعمق مما قد يجمعه بواحد من آيت سادّن التي لا تبعد إلا بعشرين كلم لا غير عن فاس..
يحيل السي محي الدين إلى الظرفية التي نعيشها، وهو الأهم، والتي تجعل المسؤولية مضاعفة على الحكام وذوي الرأي في البلدين من أجل شعوب المنطقة، ومن أجل هذا العالم الذي امتزجنا وإياه، والذي هو محتاج لنا أكثر من أي وقت مضى: العالم العربي.
هي مسوؤلية لن يَقدر عليها المغرب لوحده، ولن تستطيع أن تضطلع بها الجزائر لوحدها، وهما مستطيعان، في ظرفية أصبح فيها الوجود مُقدما على الحدود، إن كان للحدود أن تكون غاية. وهو وفاء لدَيّن، لأن هذا العالم احتضننا أثناء الاستعمار وقدم لنا الدعم، وليس أبر من الوفاء بالدّين.
أنقل حرفيا مقولته لما فيها من جرأة وحكمة وعمق ومسؤولية :
"الاجترار العلني للماضي وعثراته وأخطائه يضاعف من وضعية التعقيد التي تعرفها العلاقات المغربية الجزائرية، (مما يتطلب) أن يقف كل منا فردا وجماعة أمام نفسه وقفة مراجعة لكل شيء."
أبصم بعشرة أصابع.
لم يساورني اليأس قط من الحوار مع أشقائنا في الجزائر. وها آنذا أثاب، ومن المصادفات السعيدة أن تكون الإثابة ممن اعتبرتهم أبعد الناس مني..
السي محي الدين، أقول لك، إن كنت تسمعني، شكرا.. لأنك جعلت الأمل ممكنا في سياق عمّ فيه الغبش وران فيه اليأس.