يُنذر الجدل السياسي القائم بين مختلف مكونات الطبقة السياسية في الجزائر، بوجود احتقان على صلة بترتيبات لمرحلة ما بعد الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، وتزداد الهوة اتساعا كل يوم بين العصب التي يتشكل منها النظام السياسي، غذّاها بروز طموحات في خلافة الرئيس، ومن هذه العصب محيط بوتفليقة ومن ورائه قوى مالية تشكلت خلال فترة حكمه، ترغب في قطع الطريق أمام أي شخصية سياسية أو عسكرية قد تهدم ما بناه خلال 17 سنة قضاها في الحكم .
وقد خلق مرض الرئيس تساؤلات متعلقة بالجهة التي تحكم في الجزائر، فصارت هذه الأخيرة محجا للعديد المسؤولين الدوليين للاطلاع عن قرب عن حقيقة الوضع والتأكد من صحة الرئيس، ممّا ساهم في الرفع من التحرك الدبلوماسي النشط لسفارات الدول الأجنبية في الجزائر لتقفي مآلات الوضع تحسبا لأي طارئ قد لا يخدم مصالحها .
وطفا إلى السطح مؤخرا صراع فرنسي – أمريكي ينبني حول مصلحة كل طرف في الرئيس القادم للبلاد، وقد تسارعت وتيرة هذا الصراع تسارعت بعد التعديل الدستوري الأخير الذي أعاد غلق العهدات الرئاسية، وكذا بعد اتضاح الوضع الصحي الذي لم بعد بإمكان المحيطين ببوتفليقة إخفاءه. وتجلى الصراع المذكور في الضغط الفرنسي الذي اشتد مؤخرا ومحاولة تطويق أي مسعى قد يكون بعيدا عن محور الجزائر- باريس.
وبمقابل ذلك، يسوق وزير الطاقة الأسبق شكيب خليل، بأنه مقرب من دوائر صنع القرار في أمريكا، ويسعى لطرح نفسه ككفاءة جزائرية ذات تكوين أمريكي، ولم يتوان شكيب خليل الذي دخل في حملة مسبقة بأخذ البراءة الأخلاقية من الزوايا (مؤسسات دينية ذات امتداد اجتماعي) في انتقاد الفرنسيين واتهامهم بالوقوف وراء تسريبات وثائق بنما التي ورد اسم زوجته فيها، كما هاجم الشركات الفرنسية العاملة بالجزائر، معيدًا إلى الأذهان عدم نيلها حصتها في السوق الطاقوية الجزائرية أيام كان خليل على رأس أهم قطاع في الجزائر.
ولعل المفارقة الجديدة هي وجود جبهة صمود على مستوى المؤسسة العسكرية، تعمل على تكريس الخيار الشعبي في اختيار الرئيس الذي سيكون خليفة للرئيس الحالي، وأخلط هذا المستجد حسابات القوى المتصارعة من خلال تمسك هذه الجبهة بالحل الجزائري-الجزائري بعيدا عن أي تدخل أجنبي مع حساسيته الشديدة للُوبي الفرنسي القوي الذي تجلت امتداداته الإعلامية والسياسية في كل جدل يتعلق بخلافة بوتفليقة .
وفي ظل عدم وجود شخصية تحظى بإجماع وطني وترضي جميع الأطراف، تسعى بعض الأحزاب السياسية من الموالاة بالترويج ضمنيا لأسماء تراها جديرة بمواصلة مسار حكم الرئيس بوتفليقة، بحكم أنها رافقته طيلة رئاسته للجزائر، مما يوحي بوجود ترتيبات في السر عن الدفع بهذه الشخصيات على غرار الوزير الأول عبد المالك سلال، ورئيس ديوان الرئيس أحمد أويحيى، وأمين عام الأفلان سابقا عبد العزيز بلخادم، وهذا ما تؤكده الخرجات الإعلامية بين حزبي السلطة، الأفلان والارندي .
ويسود غموض حول مستقبل الجزائر بعدما أوشكت مرحلة حكم بوتفليقة على الانتهاء، دون تحديد اسم مرشح النظام الذي طالما كان يُعرف قبل إجراء الانتخابات الرئاسية بمدة زمنية معينة. وفي الوقت الذي ترى فيه المعارضة أن هناك شغورا في السلطة يستدعي تنظيم انتخابات مسبقة تحت إشراف لجنة مستقلة لمراقبة الانتخابات، تطالب أحزاب الموالاة أصحاب هذا الطرح الانتظار إلى غاية نهاية العهدة الرئاسية في 2019 .
وفي صلب الموضوع، أكد المكلف بالإعلام لحزب جبهة التحرير الوطني، حسين خلدون، أن ملف الرئاسيات مُطوى إلى غاية 2019، مذكرا في ذات السياق بتصريحات أمين العام للحزب الذي شدد في أكثر من مناسبة أن من له طموح في الرئاسة- في إشارة إلى أحزاب المعارضة- عليه الانتظار ولا يستعجل الأمر، ويبدو في نظر خلدون، أن الحديث عن الرئاسيات مجرد لغط إعلامي ومحاولة لإخفاء الأولويات بينها الحفاظ على الأمن والاستقرار من خلال العمل في الميدان.
ومن جانبه، يرى فاروق تيفور قيادي في حركة مجتمع السلم أن الجزائر ما بعد بوتفليقة يمكن تلخصيها في فرضيتين، أولاها أن "يَرشد هذا الحكم ويُوفر فرص سياسية أكثر ملائمة لانجاز قفزة ووثبة توافقية مشتركة بين مختلف الأطياف السياسية من اجل الحفاظ على استقرار البلد وحمايته من كل المخاطر الداخلية والخارجية"، وهذا ما تطرحه المعارضة من خلال أرضية الانتقال الديمقراطي، وحسب المتحدث فإن هذا النهج سيحمي البلد ويجنبها كل التهديدات والمخاطر .
وفيما يخص الفرضية الثانية وفق اعتقاد فاروق تيفور هي أن "تبقى هذه السلطة متعنتة ولا تستمتع لأحد وتستمر في سياستها التي ستكون وبالًا على مستقبل الجزائر في عهد بوتفليقة وما بعده"، وعلى هذا الأساس يرى القيادي في حماس (أكبر حزب إسلامي في الجزائر) أنه يتوجب على السلطة فتح حوار سياسي بين مختلف الفعاليات، لافتًا الانتباه إلى أن الفرصة مواتية خلال المحطة الانتخابية القادمة في تشريعيات 2017 ، بتوفير الأجواء المناسبة لهذا الاستحقاق القادم .
وفي تقدير الصحفي بجريدة الخبر حميد غمراسة أن الحديث عن مرحلة ما بعد بوتفليقة سابق لأوانه لعدم وجود دلائل تفيد بأن الرئيس بوتفليقة لن يترشح مجددا لانتخابات 2019، وذكّر غمراسة بمواقف المعارضة التي تطلب منذ 2005 (الوعكة الصحية الأولى للرئيس) بتطبيق المادة 88 - تغيرت وأصبحت المادة 102 في التعديل الدستوري الحديد- يقابلها رأي الموالاة الذي يرى انه من السابق لأوانه الحديث عن خلافة بوتفليقة مادام العهدة لم تنته.
وقال غمراسة، أن "أصحاب الموقف الثاني من الموالين للرئيس، والمنتفعين من حكمه، فطبيعي أن يقولوا هذا الكلام للحفاظ على المواقع التي يوجدون فيها، والمزايا التي حصلوا عليها".
لكن رئيس التحرير بقناة الشروق نيوز رضا شنوف، كان له رأي مغاير، على اعتبار أن الجزائر تعرف حاليا مخاضا، سيحدد وجه الحكم لما بعد بوتفليقة، معتبرا مطالب المعارضة حول شغور منصب الرئيس وتفعيل أحكام المادة 88، يبقى، في نظره، مطلب بعيد المنال، على المدى المنظور وفي الظروف والمعطيات القائمة حاليا.
ويحاول الفريق الحاكم وفقا لشنوف، تحصين الحكم وامتلاك الأوراق الحاسمة لترتيب بيت الرئاسة والحكم بعد 2019، مستشهدا في حديثه بالتغييرات التي شهدها جهاز المخابرات، والتي يعتبرها محدثنا أحد ملامح هذه الترتيبات، مشيرًا إلى أن فريق بوتفليقة لن يكون بنفس القوة بعد 2019.
وعلى اختلاف التوقعات والتكهنات لما سيكون عليه الوضع مستقبلا، يتفق جميع المتابعين للشأن السياسي في الجزائر على أن عملية اختيار الرئيس الذي سيخلف عبد العزيز بوتفليقة، ستخضع لمؤثرات وفواعل جديدة، على خلاف التجارب السابقة، حيث سيكون لرجال الأعمال كلمتهم في رسم معالم المرحلة المقبلة، وكذا وسائل ال‘علام التي يجري صراع طاحن لإعادة رسمها وفق ما يوافق توجهات النخبة الحاكمة اليوم .
بلقاسم الشايب